عرض مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" سينمائيًّا.. انتصار الحنين
مشاهدو مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" التي تعرض بصالات لبنان والإمارات، يحاولون فكّ الارتباط بين ما سمعوه منذ 37 عاماً، والعرض الحالي.
أياً تكن التعليقات المختلفة والكثيرة، المُسَاقة بمناسبة بدء العروض البصرية لمسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978) للّبناني زياد الرحباني؛ فإن إجماعاً لبنانياً "إيجابياً" يحيط بالعرض، بعيداً عن رداءة التقنيات المستخدَمة في العرض المؤفلم هذا.
وأياً يكن "الهجوم" المقصود ضد نقّاد يعيبون على المشروع برمّته فداحة السوء صوتاً وصورةً، معتبرين أنه (المشروع) تجاريٌّ بحت، يرتكز على الحضور الطاغي للرحباني الابن، المسرحيّ والإذاعي والموسيقيّ والساخر، في الذاكرتين الفردية والجماعية؛ فإن مُشاهدين عديدين يخرجون من الصالات السينمائية، إن كان في لبنان أو الإمارات حيث تعرض، مستائين من العرض نفسه، ومحاولين فكّ الارتباط بين العمل المسرحي المحفور سماعاً فقط في المخيّلة والوجدان منذ 37 عاماً، والعمل المُصوَّر الذي تستقطب عروضه التجارية، منذ 21 يناير 2016، آلاف الساعين إلى مُشاهدةٍ تخرج على كلِّ مألوفٍ فني.
بدء العرض المُصوَّر للمسرحية حدثٌ يتفوّق على الفني، المسرحيّ، وينفلش على السياسي، الثقافي، ويتوجّه إلى مفهوم الـ "نوستالجيا" في الوجدان الفردي الجماعي اللبناني، في بلدٍ يقضم ذاكرته بعنفٍ لا مثيل له، وينفضّ عن كلّ مسؤولية إزاء صون الذاكرة بأشكالها المتنوّعة، من قسوة الاندثار.
فجأةً، يكشف لبنانيون كثيرون "عشقاً" ملتبساً للذاكرة، فيقرّعون كلّ من تسوِّغ له نفسه القول برداءة التقنيات المستعملة في أفلمة "بالنسبة لبكرا شو؟"، انطلاقاً من أن المشروع يحمي بعض التراث ـ الذاكرة من الموت البصري.
فـ "بالنسبة لبكرا شو؟" تكاد تكون أكثر الأعمال المسرحية للرحباني الابن شيوعاً عبر أشرطة "كاسيت"، أو من خلال عروض طالبية جامعية (هناك عرض مسرحي مع محترفين تمّ تقديمه في العام 1987 في "بيروت الشرقية"، بحسب لغة الحرب الأهلية اللبنانية، بتوقيع إخراجي لمنير معاصري، بطولة منير كسرواني وجوليا قصّار في الدورين الرئيسين)، لأنها أكثرها التصاقاً بأحوالٍ معيشية مفتوحة على بؤس اليوميّ، في بلدٍ منهك لشدّة اتّساع الهوّة بين طبقة ثرية (أقلية) تتحكّم بالأوضاع العامة، وطبقة فقيرة (أكثرية) منصاعة لانقيادها شبه الأعمى لتسلّط الطبقة الأولى تلك.
فالملهى الليليّ اختزالٌ لحالة لبنانية لم تُثقل عليها الحرب الأهلية بأهوالها وخرابها لوحدها، لأنها (الحالة) تعود إلى أزمنة سابقة على اندلاعها في العام 1975، وإنْ تتفنّن الحرب وما تلاها من سلم أهلي منقوص وهشّ (بدءاً من العام 1990) في توسيع الهوّة، مع ما يأتي به التوسيع هذا من ارتباك الاجتماع اللبناني بكامله.
تحتمل "بالنسبة لبكرا شو؟" إسقاطاتٍ تحليلية عديدة، تتّخذ من الصراع الطبقي، ومآزق الفقر، وتسلّط الرأسماليّ على العاملين، وانعدام المسافة الحميمة في العلاقات الزوجية ـ العائلية، والانحلال الاجتماعيّ في ظلّ الخراب هذا، مادة إنسانية درامية غنيّة بالمعطيات والوقائع الحيّة.
تحتمل إسقاطاتٍ تتوزّع على الاجتماع والسياسة والاقتصاد، كما على العلاقات الممتدة من العائلة إلى الناس والمصالح والتجاذبات اليومية. لكن البعض يذهب إلى إلغاء إسقاطات كهذه، محيلاً العمل إلى مجرّد تركيبة مسرحية ـ غنائية يبرع زياد الرحباني في تنسيق مشاهدها، وفي إدخال جماليات الألحان والكلمات والصوت (غناء الراحل جوزف صقر) في صلب السياق الحكائيّ.
بهذا المعنى، يُمكن مشاهدة "بالنسبة لبكرا شو؟" كعملٍ مسرحيّ قائم بحدّ ذاته، متحرِّراً من كلِّ خطابية إيديولوجية، ترتكز على ثقافة يسارية ـ شيوعية، يعتمدها الرحبانيّ الابن، خصوصاً في مطلع شبابه (مواليد الأول من يناير 1956).
الثقافة هذه دافعٌ إلى قراءة كلّ عمل مسرحيّ (تحديداً) للرحباني الابن انطلاقاً منها. "بالنسبة لبكرا شو؟" لن تخرج على السياق هذا، لأنها أكثر الأعمال المسرحية تعبيراً عن معنى الصراع الطبقي، في بلدٍ يميل اقتصاده إلى الرأسمالية، التي تتفلّت لاحقاً من كلّ قيد. غير أن هناك ما يدعو إلى مقاربتها بمنحى آخر، خصوصاً على مستوى الأغنيات الثلاثة الأشهر للثنائي زياد الرحباني ـ جوزف صقر: "اسمع يا رضا"، و"ع هدير البوسطة"، و"عايشة وحدا بلاك".
فالأغنيات هذه متحرّرة كلّياً من خطابية الثقافة الرحبانية على مستوى الصراع الطبقي والموقف اليساريّ من التسلّط الرأسمالي، لانخراطها في شؤون إنسانية يُستشفّ منها بعض مفردات الثقافة تلك، المغلَّفة بحكايات تعكس مآل عاملين في الملهى، يعانون قسوة العيش وآلامه، ويواجهون خيبة الحبّ والجمال.
يعمل زكريا (زياد الرحباني) وزوجته ثريا (نبيلة زيتوني) في مقهى ليلي يديره الـ "مسيو" أنطوان (بطرس فرح)، لمصلحة صاحبه الخواجة عدنان (غازاروس ألطونيان). يريد الزوجان تحسين شروط عيشهما. لديهما أولاد (لا يظهر أحدٌ منهم على خشبة المسرح)، كبيرهم شكيب فاشلٌ في المدرسة، ومُشاغب. إدارة المحلّ لا تريد منحهما زيادة في الراتب، لأنها "تتغاضى" عن عمل ثريا خارج المحل.
الطبّاخ نجيب (رفيق نجم) والنادل رضا (سامي حوّاط) لا يختلفان عن زكريا بهمومٍ كثيرة متشابهة. هناك أيضاً الشاعر الأستاذ أسامة (فايق حميصي)، الذي يكتب شعراً نثرياً، ويعمل في تجارة متنوّعة.
شخصيات تدخل وتخرج، مختزلةً نماذج متفرّقة من لبنانيين وأجانب، يأتون إلى بيروت لعملٍ أو لتسلية.
يعمد زياد الرحباني على تصوير الحالات بلغة سلسة ومبسّطة، تتحوّل مفرداتها لاحقاً إلى قاموس يستخدمه أكثر من جيل شبابي لبناني. لغة تقول الأشياء كما هي، وتحتال على شظف العيش، كي تستمرّ في حياة معلّقة داخل نفق لا خلاص منه. عالم رحبانيّ بامتياز، يجد جذراً فنياً وثقافياً له في "سهرية" (1973)، أول إطلالة مسرحية للرحباني الابن، المعقودة على واقع ملتبس بين ريفٍ ومدينة، من خلال مقهى المعلم نخلة التنين (جوزف صقر).
في حين أن "ذروة" بوحه اليساريّ الثوريّ المتمرّد حاضرةٌ في "نزل السرور" (1974)، التي تجعل فندقاً شعبياً اختزالاً للبلد، والتي تروي فصولاً من معاناة الفقراء وخرابهم، ومن عبثية الثورة وفراغها.
لاحقاً، ينحو زياد الرحباني باتّجاه أعمق وأخطر في تفكيكه مصائب الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال نقل أحداث عمله المسرحيّ "فيلم أميركي طويل" (1980) إلى داخل مشفى للأمراض العقلية. وهذا قبل انقضاضه على صناعة التراث اللبناني في المسرح والغناء، التي يبتكرها والده عاصي وعمّه منصور، والتي تُشكّل فيروز واجهتها الأولى صوتاً وحضوراً.
فـ "شي فاشل" (1983)، آخر أعماله المسرحية خلال الحرب اللبنانية تلك، تتوغّل في جوهر البناء الثقافي للرحابنة الأهل، وتفترس عوالمه المثالية البعيدة عن الواقع، وتُسائل ـ وإنْ بعنف كلاميّ وتحليليّ وساخر ـ مغزى البلد اللبناني الرحبانيّ تحديداً.
أما "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993) و"لولا فسحة الأمل" (1994)، فتعكسان تمزّقاً واضحاً في علاقة زياد الرحباني بـ "تراثه" المسرحي ـ الغنائي، وتكشف غموض اشتغالاته ومعانيها، وفي الوقت نفسه تستمرّ في طرح أسئلة الانتماء والهوية والبلد والاجتماع اللبناني والثقافة والمستقبل على مشاهدين لم يتقبّلوا النمط المغاير للمألوف الرحبانيّ في مقاربة الأحوال والانفعالات والمسائل.
اليوم، يستعيد مشاهدون لبنانيون وعرب "بالنسبة لبكرا شو؟" عبر صُوَر رديئةٍ وصوتٍ سيء، بحجج لن تكون كلّها واهية. فرؤية الممثلين ـ المغنين مباشرة، أياً تكن الجودة الفنية، أمرٌ محبّب لمن يمضي 37 عاماً وهو يتخيّلهم، ويرسم ملامحهم وسلوكهم وعلاقاتهم وحركاتهم في مخيّلة تخرج، الآن، من إبداعاتها المتنوّعة، إلى "أصل الصورة".
aXA6IDMuMTQxLjEyLjMwIA== جزيرة ام اند امز