"مهرجان السينما الأوروبية": 12 يوماً للسجالات البصرية
مهرجان السينما الأوروبية"، الذي تُنظّمه "بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان" منذ 22 دورة، يشكل مَعْلماً ثقافياً لتفعيل التواصل.
يُشكّل "مهرجان السينما الأوروبية"، الذي تُنظّمه "بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان" منذ 22 دورة، مَعْلماً ثقافياً يتّخذ من السينما عنواناً لتفعيل تواصل فني بين إنتاجات أوروبية ومشاهدين يتوقون إلى اكتشاف بعض الجديد، المقبل إليهم من دول لا تعثر أفلامها في صالات البلد على مساحة بصرية لعرضها.
ولعلّ استمراريته المتواصلة منذ مطلع تسعينيات القرن الـ 20 تتيح له تحصين حضوره في الاجتماع الثقافي اللبناني، وتمنحه مكانةً ثابتة في المشهد المحليّ، وتفوّقاً واضحاً على المهرجانات والأسابيع السينمائية المختلفة المُقامة في أوقات متنوّعة من كل عام.
استمرارية المهرجان الأوروبي عنصرٌ أساسيّ في بلورة مفهوم ثقافي للجمهور السينمائيّ. فالثبات في اختيار مكان واحد وموعد واحد في كلّ عام يُعزِّز مصداقية العمل برمّته، ويؤدّي بالمهتمّين به إلى إقامة ارتباط ثقافي ـ سينمائيّ يجعلهم، في كلّ دورة، أكثر انغماساً في مقاربة الصُوَر المعروضة أمامهم، وفي التأمّل في صناعات أوروبية تمتلك مفرداتها الجمالية والدرامية والفنية، وبوحها الإنسانيّ المختلف.
والاستمرارية، إذْ تندمج بثباتِ موعدٍ ومكان، تُصبح هدفاً لمن يُبرمج نشاطاته المتنوّعة وفقاً للارتباط هذا، ما يجعل المهرجان محجّة لا تتأخّر عن تقديم عناوين سينمائية، لن تكون كلّها ذات سوية إبداعية واحدة، لكنها تشترك معاً في إثراء المشهد اللبناني بآليات عمل فني متنوّع في دول أوروبية، تنشأ في بعضها صناعة تمزج مفهوم السينما المستقلّة بمحلّية التنقيب في أحوال بيئات واجتماع وأناس وحالات، وتُساوي بين لغة الصورة في سرد الحكايات وتحوّلات الجغرافيا والثقافة والعلاقات الإنسانية.
وعلى الرغم من أهمية الثبات في موعد واحد ومكان واحد، إلاّ أن كثيرين من مرتادي صالتي "متروبوليس أمبير صوفيل" (بيروت) ـ المنتميتين إلى ما يُعرف في العالم باسم "صالة فنّ وتجربة" ـ لم يتوقّفوا طويلاً عند تأجيل الموعد السنوي المعتاد، المحدَّد بنهاية نوفمبر ـ بداية ديسمبر من كلّ عام، إلى موعد آخر(نهاية يناير ـ بداية فبراير 2016)، إذ يسعون إلى المُشاهدة أولاً وأساساً، ويرغبون في التعرّف على بعض الجديد الأوروبي ثانياً، ويطمحون إلى إضافات ثقافية ـ جمالية ـ بصرية، يستقونها من تنويعٍ أوروبيٍّ مختلفٍ عمّا يعرفونه ويتابعونه ثالثاً.
بهذا المعنى، تُقام الدورة الـ 22 لـ "مهرجان السينما الأوروبية" بين 25 يناير و6 فبراير 2016. وبهذا المعنى أيضاً، يأتي مريدو السينما هذه كي يكتشفوا أفلاماً، لبعضها صيتٌ إيجابيّ يسبقها إلى بيروت، ولبعضها الآخر سحر الالتباس والغموض، ما يحرّض على المُشاهدة أيضاً. وذلك ضمن طقوس يومية ممتدّة على 12 يوماً متتالياً، لا تزال (الطقوس) جزءاً أساسياً من ثقافة المهرجان: لا مسابقة رسمية، ولا تنافس، ولا برامج موازية للنواة الجوهرية (أي المسابقة الرسمية)، التي تعتاد مهرجانات كثيرة في العالم على إبرازها كمدخل أول لها. المنافسة الوحيدة معقودةٌ على أفلام طلبة لبنانيين، إذْ تختار إدارة المهرجان (المسؤولة الإعلامية في "بعثة الاتحاد الأوروبي" بشرى شاهين تتكفّل، منذ البدايات الأولى للمهرجان، بتنظيم دوراته السنوية بمستوياتها كلّها)، منذ 15 عاماً، منحى تشجيعياً يبدأ بتقديم جائزتين ماليتين للفائِزَين الأوَّلين (تتألّف لجنة التحكيم من نقّاد وصحافيين، وممثلين عن هيئات ثقافية وسفارات غربية عاملة في بيروت)، لكنه يتحوّل سريعاً عن المادة، إثر تنبّهٍ يقود إلى إيجاد نمط آخر من التكريم، يكمن في إتاحة الفرصة للفائِزَين الاثنين لحضور مهرجانات سينمائية أوروبية متخصّصة بالفيلم القصير.
الجانب اللبناني لن يكون محصوراً في هذا فقط، إذْ تتعاون البعثة الأوروبية مع "مؤسّسة سينما لبنان"، في أكثر من دورة سابقة، في مجال عرض أفلام لبنانية قديمة الإنتاج، يتمّ ترميمها.
تجربة متواضعة للغاية (لم تتكرَّر لاحقاً)، تكشف "احتيالاً" على المُشاهِد، لأن الترميم لا يُعرَض على الشاشة الكبيرة، بل نسخة منقولة على أشرطة ذات تقنيات عالية. أما الأفلام اللبنانية والعربية التي تُعرض في الدورات المختلفة، فتمتلك إنتاجاً أوروبياً مشتركاً مع إنتاجات لبنانية وعربية مختلفة، كما هو حال فيلم ختام الدورة الجديدة هذه، "3000 ليلة" للفلسطينية مي المصري، الحاصل على إنتاجات لبنانية وأردنية وفلسطينية إلى جانب إنتاج فرنسي.
في مقابل هذا كلّه، لم يعد "مهرجان السينما الأوروبية" مرتبطاً بمدينة بيروت فقط. فالتوجّه إلى مُشاهدين مُحتَمَلين في مناطق أخرى أساسيٌّ في الخطاب الثقافي للبعثة على المستوى السينمائيّ، ما يجعلها تتعاون مع معاهد ثقافية أوروبية (أبرزها "المعهد الفرنسي في لبنان") لديها فروع في مدن لبنانية متفرّقة، لعرض مختارات من أفلام مُشاركة في هذه الدورة أو تلك.
وبدءاً من الأيام القليلة الأخيرة من الدورة الـ 22، ولغاية 19 فبراير، يتسنّى لمحبّي السينما في 9 مناطق لبنانية (صيدا، النبطية، صُوْر، جونية، طرابلس، زحلة ودير القمر) مشاهدة عدد من الأفلام المتنوّعة، كتنوّع الجغرافيا اللبنانية المنفلشة على المناطق هذه.
أما لغة الأرقام، فتكشف وجود 33 فيلماً روائياً طويلاً، مُنتجة كلّها بين العامين 2012 و2015. في دورات سابقة، يُمكن لجمهور المهرجان مُشاهدة أفلام أوروبية مُنتجة قبل 5 أو 7 أو 10 أعوام أحياناً، لأن سياسة البعثة في المجال هذا لا تضع شروطاً، بقدر ما ترغب في تقديم أفضل ما يُمكن الحصول عليه من أفلام.
وهذا، وإنْ يكن جيّداً لأنه لا يقف عند حدّ إنتاجيّ مرتهن لتاريخ محدّد، يواجه مشكلة الجودة، إذْ أن غالبية الأفلام المُشاركة تأتي نتيجة عمل السفارات، قبل أن تتوضّح الأمور أكثر لجهة البحث عن شركاء (أبرزهم "جمعية متروبوليس") وموزّعين مؤهّلين للعثور على الأفضل دائماً.
إلى جانب 33 فيلماً تلك، هناك 4 أفلام منتمية إلى "الكوميديا على الطريقة الأوروبية"، بعرض La Chevre (فرنسا، 1981) لفرنسيس فيبر، و"مونتي بايتون والكأس المقدّسة" (المملكة المتحدّة، 1975) لتيري جيليام وتيري جونز، و"باسم الشعب الإيطالي" (إيطاليا، 1971) لدينو ريزي، و"الجلاّد" (إسبانيا، 1963) للويس غارسيا برلانسا. بالإضافة إلى احتفاءين اثنين: الأول خاصّ بالممثل المصري الراحل عمر الشريف، من خلال "لورنس العرب" (1962) للبريطاني ديفيد لين؛ والثاني متعلّق بذكرى مرور 400 عام على وفاة شكسبير، بعرض "ترويض النمرة" (1967) للإيطالي فرنكو زيفيريلّي. هناك أيضاً "ابتزاز" (1929) لسيّد أفلام التشويق البريطاني ألفرد هيتشكوك، الذي يُعتبر "أول فيلم بريطاني ناطق"، والمُرمَّم حديثاً.
12 يوماً من الاحتفاء بسينما أوروبية، وبكلاسيكيات حاضرة في تاريخ الروائع البصرية، وبتكريمات تتيح للمهتمّ مشاهدة أفلام قديمة على شاشة كبيرة بنسخ جيّدة الصُنعة. 12 يوماً، تلتقي فيها أفلام محترفين بأعمال مبتدئين (أفلام أولى أو ثانية)، وتجد أفلام طالبية موقعها بينها كلّها. 12 يوماً: صحيحٌ أنَّ هذا رقمٌ، لكنه أيضاً مساحة ثقافية معقودةٌ على جماليات السينما و"دهاليزها" البديعة.
aXA6IDE4LjE5MS4xNjIuNzMg
جزيرة ام اند امز