عن الشخصية المصرية كتب توفيق الحكيم وجمال الغيطاني، وكذلك جمال حمدان والمتخصصون فى علم النفس وعلم الاجتماع
عن الشخصية المصرية كتب توفيق الحكيم وجمال الغيطاني، وكذلك جمال حمدان والمتخصصون فى علم النفس وعلم الاجتماع، كما نجد بعض رموزها فى أعمال الفن من الرائعة فاتن حمامة إلى عادل إمام. ماهى بعض سمات هذه الشخصية عندما ننظر إلى هذين الكبيرين: بطرس وهيكل.
الارتباط بالأرض هو أولى هذه السمات. فقد رفض بطرس فى ساعاته الأخيرة الطيران إلى باريس لأنه يصر على الموت فى مصر، كذلك رفض هيكل قبل القبض عليه وسجنه فى سبتمبر 1981 تحذير الأصدقاء والزملاء فى لندن وأصر فعلا على العودة ليدخل السجن، هذا الارتباط بالأرض اشتركا فيه هذين الكبيرين بالرغم من الاختلاف فى الكثير من ظروف النشأة إلى الاهتمام بالوظيفة ـ مصرية أو دولية، ومع ذلك جمعهما الكثير أيضا، من حيث التقارب فى العمر ليتعدى التسعين عاما باثنين أو ثلاثة أعوام، بينما جمعهما توقيت الوفاة بفارق ساعات قليلة فقط، فى حياتهما، حيث التقيا فى الأهرام ثم تفرقا، فقد كان بطرس يجد نفسه فى منصب الوزير أو المنصب الدولي، بينما كان هيكل يعشق استقلالية «الجورنالجي» ويهرب من قيود الوظيفة، كان أكبر ما يربطهما هو أن كلا منهما ـ بوعى أم لا ـ أن يكون ويتميز تجسيدا للشخصية المصرية.
كتب هيكل فى مقدمة كتابه عن حرب أكتوبر ـ وهو مؤلفه الثالث فيما سماه حرب الثلاثين عاما ـ عن دعوته لجمال حمدان ـ عالم الجغرافيا ومؤلف المجلدات الضخمة عن شخصية مصر ـ للمناقشة عن هذه الشخصية المصرية، وبالرغم من أن هيكل تمتع بهذه المناقشة التى أشبعت تجواله فى فلسفة التاريخ وخاصة عن هذا البلد، إلا أنه فشل فى إقناع جمال حمدان فى الخروج من دير العزلة ليكون جزءا من دنيا الناس وعالم اليوم.
وقد تكن هذه ثانى سمة مشتركة بين هذين العملاقين كل فى مجال: الانفتاح على الآخر ومحاولة سبر أغواره، للتعلم منه ولكن أيضا الاشتباك معه.
اعتقد كل منهما أن مصر لايمكن أن تتقدم إذا تقوقعت داخل حدودها، لأن العالم الخارجى يمثل تحديا يجب مواجهته ولكن أيضا وخاصة فرصة يجب اقتناصها، عندما قرر هيكل ـ بعد تردد ـ ترك آخر ساعة والانتقال إلى الأهرام فى 1957 حيث كانت الجريدة فى أزمة ومحنة ولا يتجاوز توزيعها 68 ألف نسخة قفز بها فى سنوات قليلة إلى أكثر من مليون، وكان عنوان مقالته الأولى «الجمود يتحرك»،.بالرغم من اختلاف التوجهات الفكرية والأصول الاجتماعية، اختار هيكل بطرس ليرأس العديد من الركائز الأهرامية: الأهرام الاقتصادي، مركز الدراسات، السياسة الدولية التى تمسَّك بها حتى وهو وزير ولم يتركها إلا مضطرا عند ذهابه سكرتيرا عاما للأمم المتحدة.
إذن سمة ثالثة فى كل منهما تعكس بعض جوانب الشخصية المصرية هى الاهتمام المفرط ولكن الصحى بالمعلومة. كان سؤال هيكل المتكرر لمعظم من يقابلهم أو حتى يتحدث معهم تليفونيا: «ما الأخبار»؟ . قال لى الراحل محمد سيد أحمد إن هيكل استدعاه يوما فى مكتبه لكى يلومه وينصحه لأنه رآه فى مطعم الأهرام عن بعد مع ضيف أجنبى ولكنه كان دائم الحديث كعادته مع ضيفه. كانت نصيحة هيكل: هى الاستماع بقدر الإمكان للحصول على المعلومة. بالمثل كان سؤال بطرس المتكرر بعد اندماجه فى العالم السياسى وزيرا ثم سكرتيرا عاما للأمم المتحدة: ماهى آخر الأبحاث فى مجالات العلم، من الاقتصاد إلى القانون إلى السياسة، ولكن أيضا العلوم الطبيعية. رغم قدرة كل من بطرس وهيكل على القراءة السريعة، إلا أن الوقت كان دائما عملة نادرة يصعب وجود الكافى منها.
السمة الرابعة إذن هى العمل الدءوب للوصول للنجاح، وكلاهما كان فعلا تجسيدا لهذا النجاح، فأصبح هيكل الصحفى الأشهر فى المنطقة العربية وما يتعداها، وأصبح بطرس الأول من افريقيا والوحيد من المنطقة العربية يتبوأ أكبر منصب دولى ويجسد فعلا امكانات المنطقتين.
وبالرغم من انجاز هيكل على رأس الأهرام ووصولها إلى العالمية، إلا أن انجازاته الفكرية وكتبه الضخمة جاءت بعد أن أجبره السادات على ترك الأهرام فى سنة 1974، وليثبت أن القرب من السلطة لا يكفى للتألق الصحفى وحتى الفكري. وهناك قصة عن اندهاش السادات من تألق هيكل عالميا قائلا «إزاي» ؟. ولكنى طردته من الأهرام!» . أصبح الخروج من المنصب فى حالة هيكل ليس استكانة والخروج على المعاش، بل تحررا ـ رغم حبه الشديد للأهرام ـ ووسيلة أفضل لإدارة الوقت وتكريسه لما يحب، بما فيه السفر والترحال للنقاش والاكتشاف مع أكبر القامات، سياسيا ومعرفة، وبالرغم من أن حريق منتجعه فى برقاش بحوالى 118 ألف كتاب، إلا أنه كان يثبت أن العلم فى الراس مش فى الكراس»، وقدرة هذه الذاكرة التعامل مع «الخلطة» الفريدة بين الفكر والعلم، كما أظهر العالم تقديره لبطرس بـ 24 جائزة وأوسمة ورُتب فخرية، ولم يستطع قبول عروض أكثر بكثير. أما هيكل فكان حالة فريدة فى هذا الصدد، لأنه كان يرفض كل الجوائز من حيث المبدأ، باستثناء واحدة نجح الضغط المستمر عليه فى الإذعان: جائزة جمال عبدالناصر من مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت: وبالتالى لم يزاحموا من يقل عنهما مكانة فى الحصول على مثل هذه الأوسمة والجوائز.
سمة خامسة إذن هى تواضع هؤاء «الأكابر» والقامات، والتواصل مع من يقل عنهما مكانة، وخاصة عندما يكون مصريا وأختتم بقصتين ذات مغزى. وفى سنة 1982 فوضنى الراحل إداوارد سعيد ومجلس إدارة رابطة الخريجين العرب من الجامعات الأمريكية بدعوة أ. هيكل للحديث فى مؤتمرنا السنوي. لم نكن منظمة غنية وكان التحدى كيف أن أقنع أ. هيكل بهذه الرحلة الطويلة فى الدرجة الإقتصادية بدلا من درجة رجال الأعمال التى يستحقها بالتأكيد. لاحظ «الأستاذ» حرجى فما كان إلا أن قال فى معرض كلامه أنه يدفع عادة تذكرة سفره، وأردف مبررا، أنه يستفيد من السفر لكى يقوم بنقاشات وجولات أخري. كتب لى بعد ذلك خطابا غاية فى الرقة للإعتذار لأن قبل التوجه الى مؤتمرنا بأيام، أغتيلت السيدة أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند السابقة التى كانت تربطه بأسرتها علاقات صداقة وإضطر أن يكون فى الهند حيث أيضا أهمية »الخبر والحدث« بالنسبة للجورنالجي.
أما القصة مع د. بطرس فهى أكثر مغزي، وحتى طريفة فأثناء إستعداده للترشح لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، كان يقوم بحشد التأييد، ومن ضمنها زيارة مونتريال للنقاش حول تأييد الأكاديميين الكنديين وكذلك الاتصال ببعض الطلبة السابقين أو الزملاء فى وزارة الخارجية الكندية وغيرها من مراكز القرار وعند اتصاله تليفونيا لم أكن فى مكتبي، فأخذت الرسالة السكرتيرة، ولما كنت خارج البلد تلكأت فى الاتصال به ولكنى قمت بالمساعدة المطلوبة دون حديث أو طنطنة.
بعد عالميته لدى الخاصة والعامة، كانت القصة المنتشرة أن سكرتير المنظمة الدولية شخصيا اتصل بى ولم يجدني! وبالتأكيد أضاف هذا الكثيرالى كأستاذ علوم سياسية.
رحم الله هذين الكبيرين وزاد من أمثالهما فى جيل جديد.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة