يبدو أن ثمة عتبة سياسية/ فكرية عجزت الأنظمة العربية التي مرت بمخاض الربيع العربي أو التي صعدت إلى السلطة بعده، عن الارتقاء إليها
يبدو أن ثمة عتبة سياسية/ فكرية عجزت الأنظمة العربية التي مرت بمخاض الربيع العربي أو التي صعدت إلى السلطة بعده، عن الارتقاء إليها. هذه العتبة هي عتبة الحوار، الأسلوب الأنجع للتعامل مع الخلافات بين الأفراد والجماعات والدول، وحتى بين الأنظمة والثائرين عليها. لكن أنظمة مصر والعراق وسورية وليبيا واليمن، وحتى لبنان الدولة - الأعجوبة التي جربت ما قبل - الربيع العربي، أثبتت اليوم أنها غير قادرة على الانخراط في أي حوار جدي وفاعل أو ربما كانت غير راغبة في ذلك، وإن كان لا فرق هناك حقاً في هذه الحالة بين الرغبة والقدرة. فلا الإرادة الذاتية لهذه الأنظمة ولا التدخلات أو الضغوط العربية أو الدولية قد نجحت في جعلها تلتزم مبدأ الحوار أو تتبعه كأسلوب من الأساليب المتاحة لها في التعامل مع مشاكلها ومع مناوئيها، المقاتلين لها والمسالمين في آن، أو مع القوى الدولية التي تتعامل معها وتتعرض لضغوطها وإملاءاتها. هذه الأنظمة كلها، مع أنها تصطنع الاهتمام بالحوار وتدّعيه بين الفينة والأخرى، بل وتنخرط في اتخاذ مظاهره أحياناً، على الغالب لأجل الاستهلاك الخارجي، لا تفهم في الحقيقة كيف تدير حواراً. بل لعلّها لا تعرف الفرق بين الحوار من جهة، والإملاء والخطابة والمزايدة والمماطلة والمراوغة والتعنت والجبروت من جهة أخرى، وهي كلها أدوات أتقنت استخدامها عبر أكثر من نصف قرن من التسلّط الديكتاتوري الوطني ذي الصبغة العسكرية أو الصبغة الطائفية في بعض الأحوال، بخاصة في الآونة الأخيرة.
فقد عانت الدول الخمس، سورية ومصر والعراق وليبيا واليمن، من أنظمة عسكرية شمولية عبر غالبية تاريخها الحديث. كانت سورية السباقة، إذ دهمها أول انقلاب عسكري عام ١٩٤٩، وتلتها مصر عام ١٩٥٢، ثم العراق عام ١٩٥٧. وقد جاءت هذه الأنظمة العسكرية الساذجة والجاهلة والمتحمّسة كلها، إثر مأساة فلسطين وغرس إسرائيل في قلب العالم العربي عام ١٩٤٨ تحت شعارات رنانة من الحرية والوحدة والاشتراكية. ووجدت في التهديدات الصهيونية والاستعمارية والرجعية، الحقيقية منها والمتخيلة، المتكأ التي كانت تفتّش عنه لتبرير إلغائها تعددية الأصوات السياسية، «لئلا يعلو صوت على صوت المعركة»، كما كان الشعار الرائج أيامها. ودخلت اليمن في الدوامة نفسها إثر انقلاب عبدالله السلال عام ١٩٦٢، وليبيا عام ١٩٦٩ إثر انقلاب معمر القذافي. وكان الرجلان كلاهما يقتديان بالرئيس جمال عبدالناصر الذي ساعد ثورتَيهما مع نتائج كارثية في اليمن بخاصة، كان لها أثر مدمر في فاعلية الجيش المصري خلال حرب ١٩٦٧ مع إسرائيل. ومع أن ظروف لبنان مختلفة عن هذه الدول كلها، إلا أن مساره السياسي أخيراً جعله يقترب كثيراً من مأزق الأنظمة العربية العسكريتارية في عجز نظام حكمه عن ممارسة السياسة. فقد استمرأت هذه الأنظمة لعبة تكميم الأفواه والكبت السياسي بسبب ومن دون سبب، حتى عندما استبدلت شعارات المعركة بشعار السلام كخيار استراتيجي في السنوات العشرين الماضية. وقد وافق هذا التوجه مصلحة الغرب المسيطر، الذي استمدت الأنظمة منه عكازاتها. فالغرب، وإن لمّحت أجهزة إعلامه وبعض مسؤوليه إلى حالة السياسة المتدهورة في عالمنا العربي بين حين وآخر، لن يحاول قلقلة أنظمتنا الشمولية لأن التعامل مع طرف واحد قلق على كرسيه أسهل كثيراً من إقناع شعب بكامله بحق الغرب في أسواقنا ومواردنا وتمويلنا، وبحق إسرائيل في الوجود.
لم تؤدِّ ثورات الربيع العربي في مصر وسورية واليمن أو هبات الغضب الشعبي في العراق وليبيا ولبنان أو حتى الردود المسلّحة ونشوء مناطق نفوذ خارجة عن سلطة الدولة المركزية في غالبية هذه البلدان، إلى أي تغيير في إدارة الأزمات من دون اللجوء إلى العنف. فالأنظمة السائدة اليوم، الجديدة منها والمهترئة التي ما زالت تنازع، لا تملك أي قدرة على السياسة بعد عقود من التسلّط ووأد كل مشروع إصلاحي يمكن أن يهدّد شموليتها أو يغير خياراتها ومساراتها. وهي لا تعرف إجابة عن الاحتجاجات ضدها سوى العنف والقمع من دون أي أفق سياسي. والعسكرة التي نشاهدها في صفوف مناوئيها في هذه البلدان كافة، بما فيها لبنان المبتلى بعسكرة طائفية أحادية التوجه، ما هي إلا نتاج سيادة العقلية التسلطية نفسها على كل تفكير بتغيير الحكم، سواء جاء من الموالاة أو المعارضة، بعد أن طغت هذه العقلية العسكرية التسلطية على الساحة لعقود ومحت كل تفكير مغاير مما كان موجوداً في الثقافة السياسية الجنينية في هذه البلدان العربية إثر استقلالها عن الاستعمار في منتصف القرن العشرين. وهكذا أصبح لكل نظام معاصر في هذه البلدان غريمه، أو غرماؤه، الذي تخلق على شاكلته واقتبس منه رؤيته وفهمه وأدواته ليستخدمها ضده في الصراع على السلطة. واختفت سريعاً من الساحة تلك الإرهاصات السياسية التي أججت ثورات الربيع العربي في المقام الأول: الإرهاصات الشبابية التحررية الطموحة والساذجة في آن واحد، التي حلمت بمستقبل سياسي حقيقي، يكون للحوار فيه دور مركزي في إدارة شؤون البلاد والعباد، قبل أن تستعيد أنظمة الطغيان منها السيطرة.
لا غرابة إذاً، في أن نجد أن كل مشروع للحوار في هذه البلاد العربية (وفي غيرها أيضاً فكلنا في الهمّ شرق) يفشل، أحياناً قبل أن يبدأ. ولا فرق حقاً بين الحوارات التي تأخذ مكاناً لها في البرلمانات الناقصة بين مختلف التنظيمات والأحزاب والملل كما في العراق ولبنان وإلى حد ما ليبيا اليوم، أو تلك التي تنتقل من ساحات المعارك إلى أروقة الاجتماعات المدارة دولياً كما في حالة سورية واليمن وليبيا أيضاً، أو تلك التي تتحاور مع نفسها وتدعي، على طريقة إسرائيل في «الحوار» مع الفلسطينيين، بأن الطرف الآخر لا يفهم أو يستحق أو يحترم الحوار، كما في حالة نظامي سورية ومصر خصوصاً، لكن في كل هذه الدول في شكل عام. ولا غرابة أيضاً في أن مشاريع الحوار التي شهدناها في هذه البلدان كافة في الآونة الأخيرة، كلها لم ترتق إلى أكثر من كونها حوارات للطرشان: كل طرف فيها يسمع نفسه فقط وينزل على محاوريه ما يدعيه عنهم من نقص وتقصير وتخلّف ومداورة، أو، التهمة الأكثر رواجاً اليوم والتي تنسف كل إمكان للحوار، الإرهاب. وللأسف، لا غرابة أيضاً في أن أكثر أنواع الحوار رواجاً في هذه البلدان التي تمر بمخاضات تغييرات جذرية وعسيرة، هو حوار الدم.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة