تكريمات "القاهرة السينمائي" ..حكاية مهنة بعيون ممثّليها
في دورته الـ 37 يختار مهرجان القاهرة السينمائي ثلاثة ممثلين راحلين هم فاتن حمامة وعمر الشريف ونور الشريف لتكريمهم.
في دورته الـ 37 (11 ـ 20 تشرين الثاني 2015)، يختار مهرجان القاهرة ثلاثة ممثلين راحلين هم فاتن حمامة وعمر الشريف ونور الشريف لتكريمهم، علمًا أن الأولى بينهم تتحوّل إلى "نجمة" الدورة الجديدة، إذ تحتل صورتها الملصق الرسمي للمهرجان ولمطبوعاته، وتحمل الجائزة التقديرية اسمها: "بعد دراستنا الأمر، توصّلنا إلى أن فاتن حمامة أفضل من يمثّل السينما المصرية؛ لأنها ليست مجرّد ممثلة حاصلة على لقب "سيّدة الشاشة العربية"، فهي قدّمت للسينما العربية، على مدى 60 عامًا، أفلامًا مختلفة، منذ أن كانت في الخامسة من عمرها"، تقول ماجدة واصف رئيسة المهرجان، ردًّا على سؤال حول الموضوع هذا. لكن، ألا يُمكن القول إن لعمر الشريف ونور الشريف أيضًا، مع اختلاف أساليبهما الأدائية والفنية والثقافية، "باعًا" طويلًا في صناعة السينما المصرية، مع التنبّه إلى أن للأول أفلامًا غربية عديدة، بعضها لا يزال يحتلّ مكانةً ثابتة في تاريخ الفن السابع؟
لا إجابة. "البلبلة" في هذا الأمر تثير حشرية المعرفة، بينما يرى البعض أن اختيار فاتن حمامة ناتجٌ من كونها أول الراحلين الثلاثة في العام 2015، بالإضافة إلى كونها "سيدة"، كما يُعلّق آخرون. غير أن الأهمّ من هذا كلّه كامنٌ في أن إدارة المهرجان توازن في تكريمات الدورة هذه بين راحلين وأحياء؛ إذ تحتفل أيضًا بالممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي والمخرجة الهندية فرح خان والممثلين المصريين حسين فهمي (رئيس المهرجان نفسه بين العامين 1998 و2001) ونيلّي كريم. التوازن يُضفي على الدورة الـ 37 جمالية البحث في تنويعات جدّية في نمط الاشتغال وأساليب الأداء والعمل بين عوالم متفرّقة، خصوصًا أن التكريم لا يقتصر على عرض مختارات من أفلام المُكرَّمين فقط، إذ يتجاوز العروض إلى تنظيم لقاءات عامة تتناول العوالم الفنية والإنسانية والمهنية للراحلين الثلاثة، وإلى إصدار ثلاثة كتب لطارق الشناوي (فاتن حمامة) ومحمود قاسم (عمر الشريف) ووليد سيف (نور الشريف)، بالإضافة إلى كتاب رابع باللغة الإنكليزية عنهم أيضًا.
لن يكون سهلًا اختزال المواقع الفنية التي يتمتّع بها الراحلون الثلاثة، بفضل أفلام تُشكّل محطات أساسية في تطوير لغة الأداء لدى كل واحد منهم، وفي كيفية تقديم الشخصيات، وفي آلية الانصياع إلى أعماق الحبكة وتفاصيلها ومتاهة حكاياتها، وفي معنى التداخل بين الممثل والشخصية من دون امّحاء أحدهما بالآخر. يتبيّن هذا ـ بطريقة أو بأخرى ـ عبر الأفلام المختارة لعرضها، علمًا أن هناك ثلاثة أفلام من أصل سبعة تمثّل فيها فاتن حمامة إلى جانب عمر الشريف، مما يمنح هذا الأخير فرصة أكبر للظهور على شاشات المهرجان، هو الذي تُعرض له خمسة أفلام أيضًا، منها "جحا" (1958) للفرنسي جاك باراتييه، المعروض في إطار تكريم كاردينالي. أما نور الشريف، فحاضرٌ في ستة أفلام، اثنان منها للمخرج الراحل يوسف شاهين هما "حدوتة مصرية" (1982) و"المصير" (1997)، الذي له فيلمان آخران في تكريم حمامة وعمر الشريف هما "صراع في الوادي" (1954) و"صراع في الميناء" (1956).
يُشكّل يوسف شاهين محورًا جوهريًّا في السيرة المهنية للراحلين الثلاثة، لقدرته على توظيف خصوصية أداء كل واحد منهم في الفضاء العام لأفلامه، لم يكن عمر انعكاسًا سينمائيًا مباشرًا لشاهين في أفلامه، على نقيض نور، أحد الممثلين القلائل الذين أدّوا دور المرآة الشفّافة للسينمائيّ مع عمر وفاتن، يكون شاهين مختلفًا، فهذه بداياته الإخراجية، وهما معه يصنعان تأسيسًا مختلفًا لبدايات تحفر لهما في المشهد السينمائي المصري مكانةً ثابتة في بلورة آلية تمثيلية ما.
شاهين مع نور يُصبح في مراحل ذروة اشتغالاته: "حدوتة مصرية" جزءٌ من سيرة المخرج، الذي يختار نور لتأديته هو نفسه في فيلم سيرة ذاتية، وفي "المصير"، يضع المخرج ممثله في واجهة الصراع بين المتنوّرين والظلاميين، كمن يريده أن يكون "ناطقًا" باسمه في مشروعه السينمائي المرتكز على مواجهة الأمية والجهل والرجعية.
لا يكتمل الاحتفال بفاتن حمامة من دون التوقّف عند اشتغالات أخرى لها مع من باتوا أقرب المخرجين إلى حساسيتها ومزاجها الفنيين: هنري بركات. اختير فيلم واحد لهما معًا هو "دعاء الكروان" (1959)، لإتاحة مجال أوسع لأساليب سينمائية أخرى، تتمثّل بتعاونها مع عز الدين ذو الفقار (زوجها الأول) في "نهر الحب" (1960)، وسعيد مرزوق في "أريد حلًا" (1975)، وحسين كمال في "إمبراطورية م" (1982)، وخيري بشارة في "يوم مر ويوم حلو" (1988).
التنويع قادرٌ على منح المُشاهد فرصة إضافية لاستعادة عوالم سينمائية تتوغّل في أحوال الفرد وبيئته، إذ أن الجامع بين المختارات هذه كامنٌ في قدرتها على تفكيك البنى الاجتماعية والإنسانية والحياتية للناس، والولوج إلى أقصى ارتباكاتها وتعقيداتها، بحثًا في متاهاتها وتعقيداتها، وصولًا إلى محاولة رسم ملامح عامّة لحلول مؤجّلة. التوغّل هذا في تشعّبات اليومي جزءٌ من كشفٍ سينمائي مبطّن لأهوال العيش، ولآلام الفرد في علاقاته مع ذاته ومع الآخرين.
بالإضافة إلى أفلام شاهين وباراتييه وذو الفقار، يظهر عمر الشريف في ملحمتيّ ديفيد لين "لورنس العرب" (1962) و"دكتور زيفاغو" (1965)، اللتين فتحتا أبواب العالم الغربيّ أمام الممثل الشاب، واللتين ساهمتا في بلورة مشواره الفني، وآلية أدائه التمثيلي. هناك أيضًا "الأراجوز" (1999) لهاني لاشين، أحد أبرز أفلام "العودة إلى مصر"، وصولًا إلى "السيد إبراهيم وزهور القرآن" (2004) لفرنسوا دوبيرون. بهذا التنويع، يكشف عمر الشريف عن علاقته الفعلية بالتمثيل، عبر الانغماس في لعبة الأداء، بعيدًا عن كل تنظير ثقافي ـ فكري لها، وقريبًا جدًّا من حرفية ممتلكٍ فعليٍّ لأداوتها.