القمح.. قصة كفاح مصرية ضد الفساد
القمح مسألة حياة أو موت في مصر أكبر مستورد للقمح في العالم لأسباب منها أن مصر تدير برنامجًا لدعم أسعار الخبز يسد احتياجات الملايين.
عندما خرج المحامي المصري أحمد جاد من مقهى على أطراف القاهرة لاستقبال مكالمة في أكتوبر/تشرين الأول صوب مسلح يركب دراجة نارية بندقية نصف آلية تجاهه وفتح النار، واستقرت 3 طلقات في جانبه الأيمن قبل أن يفر المهاجمون.
قال جاد الذي نجا من الموت في هذا الهجوم، إن الرجلين كانا يحاولان إسكاته وردعه عن محاولاته لفضح الفساد في واحد من أهم أسواق السلع الأولية في مصر وهو القمح.
من الممكن أن يصبح القمح مسألة حياة أو موت في مصر أكبر مستورد للقمح في العالم لأسباب، منها أن مصر تدير برنامجًا لدعم أسعار الخبز يسد احتياجات عشرات الملايين من فقراء المصريين.
وسبق أن كان نقص القمح سببًا في أعمال شغب في الماضي وعندما انتفض المصريون على حكم حسني مبارك عام 2011 كان أحد هتافاتهم الرئيسية "عيش (خبز) حرية عدالة اجتماعية."
وقد عادت الضغوط خلال الأشهر القليلة الماضية بعد أن واجهت مصر احتمال نقص القمح بسبب حظر مشدد على استيراد الشحنات المصابة بفطر الإرجوت الشائع، ومع ذلك فأصعب آفة يجب القضاء عليها هي الفساد.
وجعل الرئيس عبد الفتاح السيسي من القضاء على الفساد بما في ذلك التربح من قطاع القمح واحدًا من أولويات حكومته، وفي 2014 بدأت الحكومة تطبيق نظام للبطاقات الذكية يهدف إلى وقف المخابز التي تتلاعب ببيع الدقيق (الطحين) الذي تدعمه الحكومة في السوق السوداء عن العمل.
تقول القاهرة إن هذا النظام حقق نجاحًا كبيرًا وأدى إلى توفير ملايين الدولارات من دعم الخبز وقلص الواردات، وأدى إلى القضاء على الطوابير الطويلة التي انتشرت في أنحاء البلاد.
وقال خالد حنفي وزير التموين المصري في تصريحات صحفية أواخر 2014، إن ما يقرب من 50% من إمدادات الدقيق في البلاد مسروق. وفي ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي أعلن أن النظام الجديد وفر من الدقيق ما تزيد قيمته على 6 مليارات جنيه مصري (766 مليون دولار).
غير أن مسؤولي صناعة الدقيق وتجارًا وأصحاب مخابز يقولون، إن هذه الإصلاحات فشلت وأدت إلى تدهور النظام.
وقالت 8 مصادر في صناعة القمح إن نظام البطاقات الذكية يمكن التلاعب فيه بما يتيح لبعض أصحاب المخابز تزييف الفواتير وطلب كميات أكبر كثيرًا من القمح المدعوم من الكميات التي باعوها بالفعل.
وأوضح منتقدو النظام أنه بدلًا من تقليل كمية الدقيق التي تسدد الدولة مقابلًا نقديًّا لها، فإن نظام البطاقات الذكية زادها في واقع الأمر، وأطلق ذلك موجة من عمليات الاحتيال على نطاق أوسع في سلسلة الامدادات تقول المصادر، إنها كلفت البلاد مئات الملايين من الدولارات في العام الماضي.
وتشير إحصاءات داخلية أعدتها وزارة التموين إلى أن مشاكل نظام البطاقات الذكية كبيرة، وتبين البيانات أن استهلاك الدقيق الذي تدعمه الدولة ارتفع في أوائل 2015 في 12 محافظة من بين 19 محافظة طبق فيها النظام.
وفي فبراير/شباط من عام 2015 بلغ حجم استهلاك الدقيق المدعم 955 ألف طن حسبما توضح البيانات ارتفاعًا من 750 ألف طن في الشهر نفسه من العام السابق.
وتسلم الحكومة بوجود مشاكل صاحبت تطبيق نظام البطاقات الذكية في بداياته، وأدت إلى ارتفاع الاستهلاك، لكنها قالت إن المشكلة محدودة وتم التعامل معها.
وأيًّا كان الحال فقد أدت زيادة الاستهلاك في أوائل العام الماضي إلى استنزاف احتياطيات الحكومة من القمح، وبحلول مايو/آيار حسبما أوضحت بيانات وزارة التموين المصرية انخفاض احتياطيات القمح إلى 435 ألف طن فقط أي ما يكفي احتياجات نحو أسبوعين فقط بالمقارنة مع الاحتياطيات العادية التي تحتفظ بها الدولة في العادة وتكفي 3 أو 4 أشهر.
وقال 4 تجار إن الحكومة حاولت تغطية النقص بالإعلان عن وفرة المحصول المحلي في العام الماضي، ثم سدت الفجوة في هدوء من خلال شراء كميات إضافية من القمح المستورد. وقال التجار وأحد المستشارين السابقين لوزير التموين المصري، إن المحصول لم يكن في واقع الأمر أكبر من المعتاد.
وقال نادر نور الدين المستشار السابق لوزير التموين المصري، الذي يعمل حاليًا أستاذًا بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، إنه ليس من المنطقي أن يكون المحصول بالحجم الذي أعلنته الحكومة؛ لأن المساحة المزروعة قمحًا لم تزد، ولأن أساليب الإنتاج لم تتغير كما أن الأسمدة المستخدمة لم تزد كمياتها.
ونفت الحكومة المصرية أنها واجهت نقصًا في القمح، وقال وزير التموين المصري في مقابلة ديسمبر/كانون الأول، إن مستويات القمح تم خفضها عن عمد في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2015 لإخلاء مساحات في الصوامع للمحصول الوفير الذي توقعته الدولة.
وقال الوزير: "لم نواجه ولا نواجه نقصًا على الإطلاق في الاحتياطيات، فالعكس صحيح."
اختراق نظام البطاقات الذكية
كان الهدف من نظام البطاقات الذكية هو القضاء على الفساد، وتقضي الخطة بمنح كل أسرة بطاقة ذكية تسمح لها بشراء 5 أرغفة صغيرة من الخبز لكل فرد من أفراد الأسرة يوميًّا، ويتعين على كل أسرة تمرير البطاقة عبر جهاز في كل مرة تشتري فيها الخبز حتى تتمكن وزارة التموين المصرية من تتبع كميات الخبز التي يبيعها كل مخبز، ثم تدفع الحكومة دعمًا لكل مخبز عن كل رغيف.
وحتى تطبيق نظام البطاقات الذكية كانت الوزارة تعتمد على ما تقرره المخابز من كميات الخبز التي تبيعها، لكن كثيرًا من المخابز كانت تبالغ في الكميات ثم تبيع الكمية الإضافية في السوق السوداء، وقالت الحكومة المصرية، إن النظام الجديد أدى إلى توقف مبالغات المخابز.
لكن 4 من أصحاب المخابز و3 من تجار القمح ومسؤول بإحدى المطاحن، قالوا إنه من الممكن التحايل على النظام، فالبطاقات الذكية والأجهزة التي تقرأ بياناتها صنعتها شركة سمارت الخاصة في القاهرة. ويقول التجار وأصحاب المخابز، إن بعض العاملين في سمارت أنتجوا سرا بطاقات تماثل البطاقات الذكية العادية لكنها تمثل بطاقات رئيسية أو عمومية يمكنها التحكم في النظام.
ويمكن لأصحاب المخابز باستخدام هذه البطاقة إعادة ضبط النظام ثم تمرير البطاقات الذكية العادية عبر الجهاز عدة مرات. وقال بعض أصحاب المخابز المنافسين، إن موظفين في شركة سمارت باعوا أجهزة الغش لمخابز مقابل عدة آلاف من الدولارات.
ووصف بقال في ضاحية حلوان جنوبي القاهرة كيف يغش التجار في الحي النظام. وقال البقال: "يتم إدخال البطاقة في الجهاز والحصة المصروفة لكن يمكن عندئذ أن يعيد الجهاز ضبط البطاقة بما يسمح بإنفاق المزيد." وأضاف إن أصحاب المخابز الذين رفضوا المشاركة في خطة الاحتيال أبلغوا وزارة التموين التي بدأت فيما بعد تضيق الخناق على التجار.
وامتنعت شركة سمارت عن الرد على طلبات للتعليق.
وسلم وزير التموين المصري بأن نظام البطاقات الذكية تعرض لخطر التلاعب لكنه وصف المشاكل بأنها "هامشية للغاية وبسيطة". وقال إن الوزارة تحقق على الفور في أي زيادة مشبوهة في استهلاك الدقيق.
وتابع الوزير: "بالطبع أي نظام على الإنترنت... يتعرض لنسبة بسيطة جدًّا للاختراق"، لكنه أضاف: "إذا حدثت أي زيادة غير مبررة في الاستهلاك يتوجه مسؤولونا مباشرة ويتكفلون بالأمر."
وقال عطية حماد رئيس شعبة المخابز في الغرفة التجارية للقاهرة، إن الحكومة أغلقت عشرات المخابز بسبب الغش، وألقت بكثيرين من أصحاب المخابز في السجن.
وأضاف حماد إنه رغم الإجراءات المشددة والقيود الجديدة على كمية الدقيق التي يمكن لكل مخبز شراؤها، فمازال من الممكن التلاعب في النظام باستخدام البطاقات غير الرسمية.
محصول وفير
في يونيو/ حزيران الماضي قالت وزارة التموين المصرية، إنها اشترت بفضل المحصول المحلي الوفير 5.3 مليون طن من القمح المحلي وهي كمية قياسية ارتفاعًا من 3.5 مليون طن سنويًّا في السنوات القليلة الماضية.
لكن التجار ومسؤولي المطاحن يقولون، إن المحصول لم يكن أكبر من العادي. ويقدر هؤلاء أن نحو مليوني طن من الكمية التي قالت الحكومة، إنها اشترتها وتبلغ 5.3 مليون طن إما تم استيرادها من الخارج أو لم يكن لها وجود سوى على الورق.
ويقول التجار ومسؤولو المطاحن والمستشار السابق لوزير التموين المصري، إن شركات باعت قمحًا مستوردًا للوزارة على اعتبار أنه قمح مصري حتى يمكنها أن تحصل على سعر القمح المدعم الأفضل.
ودفعت الدولة حوالي 370 دولارًا للطن من القمح المحلي وفقًا للبيانات الحكومية المنشورة أي 150 دولارًا للطن أعلى من السعر العالمي في الصفقات الفورية.
وقال هشام سليمان من "ميد ستار للتجارة"، وهي شركة متوسطة الحجم تعمل في مجال استيراد القمح، إنه قدم شكوى إلى البنك المركزي بأن حجم المحصول غير دقيق ويجعل من الصعب على الشركات الخاصة قياس الطلب وتقدير حجم الواردات المطلوبة. وأضاف أن المحصول الوفير "لم يتحقق خلال 30 أو 40 عامًا".
وأوضح وليد دياب العضو المنتدب لشركة "الطحانون المصريون"، وهي إحدى الشركات الكبرى الثلاثة في مجال الطحن، إن وزارة التموين سمحت لنظام "فاسد" بالاستمرار "للتغطية على انخفاض الاحتياطيات الاستراتيجية".
وتقدر المصادر إجمالًا أن الإمدادات المحلية حققت ملياري جنيه إضافية (255 مليون دولار) من خلال بيع قمح مستورد للوزارة.
القمح الشبح
شركة "التيسير للمحاصيل الزراعية" ومقرها القاهرة هي واحدة من بين عدة شركات قالت إنها استفادت من أزمة العام الماضي.
فالمحامي جاد البالغ من العمر 29 عامًا الذي تعرض لإطلاق النار كان يعمل في شركة التيسير، ويقول إن الشركة باعت للحكومة قمحًا لا وجود له في ظل الإسراع لسد النقص الكبير في القمح.
وقال جاد، إنه لا توجد بصوامع الشركة مساحة كافية للاحتفاظ بكل القمح الذي قالت الشركة إنها باعته.
وتظهر الوثائق بين شركة التيسير ووزارة التموين المصرية وبعض الجهات الحكومية الأخرى أن الشركة باعت للحكومة مئات آلاف الأطنان من القمح في 2015، وتتضمن تلك الوثائق التي جمعها جاد أثناء عمله في الشركة إيصالات من الحكومة وعقود استيراد وتقارير حكومية عن الصوامع.
ويظهر أحد عقود البيع التي أبرمتها "التيسير" أن الشركة باعت للحكومة 102 ألف و625 طنًّا من القمح من صومعة تابعة للشركة تعرف باسم هناجر المصنع.
غير أن مفتشين من وزارة التموين فحصوا الصومعة في 2013 ووجدوا أن طاقتها التخزينية تقل قليلًا عن 10 آلاف طن وفقًا لما أظهره سجل تفتيش من وزارة التموين.
وقال جاد، إن المفتشين عادوا العام الماضي للقيام بعملية تفتيش جديدة، ووجدوا أن مساحة التخزين بلغت 102 ألف طن. وأضاف أنه جرى توسيع وحدة التخزين في الفترة بين 2013 و2015 ولكن بمقدار قليل جدًّا قد لا يتجاوز بضعة آلاف من الأطنان.
ومن جانبه، أوضح دياب صاحب المطحن أن الحكومة عدلت الطاقة التخزينية لكثير من صوامع القمح العام الماضي كي تبرر الكميات التي لا يمكن تخزينها في الواقع. وأضاف "حدث ذلك في جميع أنحاء البلاد."
ونفى وزير التموين المصري أن يكون هناك أي غش وعزا هذا الالتباس إلى تعديلات في كيفية إدارة سلسلة الإمداد. ويحجم حنفي ووزارته منذ ذلك الحين عن الرد على طلبات للإدلاء بمزيد من التفاصيل.
وقالت شركة التيسير للمحاصيل الزراعية، إنها لم تزيف قط مشترياتها من القمح، وإنها لا تعرف إجمالي طاقتها التخزينية ولا يمكنها تحديد الكمية التي باعتها للحكومة.
وأشارت الشركة إلى أن من المستحيل غش الحكومة المصرية التي قالت إنها تفرض رقابة قوية. وقالت الشركة إنه تم ضبط جاد وهو يحاول سرقة أموال من الشركة ثم حاول بعد ذلك ابتزازها.
ونفى جاد مزاعم الشركة التي استقال منها في أوائل سبتمبر/ أيلول وأقام دعوى عليها أمام هيئة الرقابة الإدارية، قال فيها إن الشركة زورت مشتريات القمح المحلي. وبعد مرور شهر تعرض جاد لإطلاق النار بعدما جذبت القضية اهتمام وسائل الإعلام المحلية.
وفي ديسمبر/ كانون الأول قررت هيئة الرقابة المالية عدم إحالة قضية مشتريات شركة التيسير للمحاصيل الزراعية إلى المحكمة. وأحجمت هيئة الرقابة عن التعليق على القضية.
والشهر الماضي تراجعت الحكومة عن خطة لإصلاح منظومة دعم القمح، كان الإصلاح المقترح يقضي بشراء القمح من المزارعين المصريين بالأسعار العالمية مع تقديم دعم مباشر أقل حجمًا لإزاحة وسطاء مثل التيسير. وقال كثير من الخبراء، إن ذلك كان سيقضي على الفساد الذي ظهر العام الماضي وإنهم يخشون أن يؤدي قرار إلغاء الإصلاح إلى مزيد من المشكلات.
وقال سليمان من "ميد ستار للتجارة" بعد إعلان التراجع عن الإصلاح: "لم يتعلموا الدرس من الموسم الماضي."
وأكد جاد الذي كان يأمل يومًا بأن تسلط قضيته الضوء على الفساد المستشري في قطاع القمح إنه فقد الأمل في تغيير أي شيء.
وأضاف "لا إرادة لدى الحكومة للتعامل مع هذا الأمر... لا يفعلون سوى الاستمرار على نفس النهج... إذ لم يخبرهم أحد بأنهم يرتكبون أي خطأ، اعتدنا على ذلك".