تعرَّف على أسباب ارتفاع الأسعار في ليبيا
المشهد الاقتصادي في ليبيا لا يختلف كثيرًا عنه في المشهد السياسي الذي يعاني تخبط وعشوائية في القرارات مع صراع عنيف يحكم القوى المختلفة.
إن المشهد الاقتصادي في ليبيا لا يختلف كثيرًا عنه في المشهد السياسي الذي يعاني تخبطًا وعشوائية في القرارات مع صراع عنيف يحكم القوى المختلفة.
ويبقى المواطن العادي هو من يدفع فاتورة هذا التخبط في القرارات، والهشاشة في النظام الاقتصادي، والخلل في السياسات المعتمدة سواء من قِبَل مصرف ليبيا المركزي، أو من ازدواجية السلطتين التشريعية والتنفيذية عبر برلمانين وحكومتين، كذلك بازدياد المشهد ضبابية بميلاد الحكومة الثالثة التي إن لم تستطِع تقديم الحلول الجذرية للأزمات التي تعاني منها البلد فإنها ستزيد الأمر تعقيدًا.
مصرف ليبيا المركزي، مُتهم بأنه المسؤول المباشر عن أسباب الأزمات المختلفة؛ كونه من يُعطل تدفق السيولة النقدية للمصارف التجارية والتي بها حسابات المواطنين لأجل سحب مرتباتهم والتي أصبح من الأمر المعتاد تأخرها الذي يبلغ حتى الثلاثة أشهر في أحيانًا عدة، وهذا أمر بات سائدًا منذُ أكثر من عام ونصف.
وصول الأزمة لقوتِ المواطن جعل جموع الناس تخرج في مظاهرة في طرابلس أمام مبنى مصرف ليبيا المركزي، مُنددة بما يتبعه المصرف المركزي من سياسات رافعة شعارات ولافتات تتساءل: "أين أموال الشعب الليبي" وتوجه اللوم مباشرة لمحافظ المصرف "الصادق الكبير" معتبرة أياه المسؤول عما يعانيه الاقتصاد الليبي من مشاكل وارتفاع حاد في الأسعار.
وكردٍّ على هذه المظاهرات صرح المتحدث الرسمي باسم مصرف ليبيا المركزي "عصام العول" معزيًا سبب ارتفاع الأسعار والأزمة المالية إلى شُح موارد الدولة كنتيجة لغلق الحقول والموانئ النفطية، كذلك لمنع ليبيا بقرار دولي من استيراد الدولار.
وهذه ليست المرة الأولى التي ينفي فيها مصرف ليبيا المركزي مسؤوليته عن كونه سبب الأزمة الاقتصادية؛ ففي موقعه الرسمي يصف مستنكرًا ما يُتهمُ به بأنه "حملة مُمنهجة" تُشن عليه.
تجدر الإشارة إلى أن ارتفاع الأسعار بات يأخذ منحى تصاعدي منذُ فترة بدء التجاذبات السياسية والتي كانت وراء صراع مسلح بين العديد من المجموعات، وكذا انقسام السلطات في البلد، حيث أشار تقرير لـ"صندوق النقد العربي" إلى أن ارتفاع أسعار السلع والخدمات في ليبيا بلغ 60% بحلول نهاية العام الماضي، كذلك تنبأ هذا التقرير ببلوغ معدلات التضخم إلى أعلى مستويات لها خلال هذا العام.
وقد بلغ سعر السلع الأساسية ارتفاع لم يشهده حتى إبان الثورة الليبية التي كانت فيها البلاد تعيش ظروفًا استثنائية، حيث بلغ سعر رغيف الخبر إلى 5 أضعاف سعره، وهذا ينسحب على باقي السلع الأساسية التي وصل معدل ارتفاع سعر بعضها إلى 450%.
مؤخرًا أصدر مصرف ليبيا المركزي قرارًا بضخ ما قيمته ملياري دولار كاعتمادات مُستندية لأجل المساهمة في حل مشكلة ارتفاع الأسعار عبر توفير النقد الأجنبي للتجار بسعر صرفه الاعتيادي، كذلك المساهمة في تدفق السيولة النقدية في المصارف التجارية؛ ما يسهم في تقليص حجم أزمة عدم توفر العملة النقدية في خزنات المصارف.
زيادة التضخم والاستيراد من الخارج
الخبير الاقتصادي والأكاديمي الدكتور "أحمد أبولسين" عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة طرابلس، وفي حديث له لبوابة "العين" الإخبارية، يُعزي ارتفاع الأسعار إلى زيادة معدلات التضخم، وهذا ناتج في تقديره عن أسباب عديدة، كانخفاض التدفقات المالية للنقد الأجنبي، كذلك ما تنتهجه مؤوسسات الدولية من دمج للسياسات النقدية والمالية وجعل مصرف ليبيا المركزي هو المسؤول المباشر عن صرف المرتبات، كذلك التوسع في الإنفاق العام وتآكل السقف الذي يفترض أن يكون عليه حيث بلغ إلى نحو 37 مليارًا، وأردف أنه يكفي القول إن حجم الدين العام في الموازنة العامة وصل 41 مليارًا.
ويضيف أن ما تبنَّاه مصرف ليبيا المركزي مؤخرًا من سياسة ضخ ملياري دولار كاعتمادات مستندية يمكن أن يؤثر بشكل سلبي في المشكلة الاقتصادية ويسهم في استفحال الأزمة إن لم يقابله سياسة متوائمة مع هذا الطرح، حيث إن الدولة الآن مُعرضة لأن تقع في فخ السيولة مرة أخرى إذا اتجه مبلغ كهذا نحو الاكتناز.
يرى "أبولسين" أن هناك حزمة من الإجراءات والتدابير التي يجب أن تُتخد لأجل الخروج من هذه الأزمة على المدى القصير، وأهمها هو ضبط الإنفاق العام، كذلك العمل على إلغاء الأوراق النقدية ذات القيمة الكبيرة والتي تحمل جزءًا كبيرًا من المعروض النقدي، أيضًا العمل بالموازنة الاستيرادية على الأقل فيما يخص بعض السلع الأساسية والأدوية من خلال الاتفاق مع شركات معينة على توريدها.
كما يضيف أنه يجب خفض حجم الإنفاق الخارجي والمتعلق بمصروفات السلك الدبلوماسي، والبعثات والعلاج بالخارج وذلك عبر تقنينه وإعادة إدارته وضبطه، أيضًا فصل السياسة النقدية والمالية وضبط عمل مصرف ليبيا المركزي من خلال وضع معايير معينة للأسعار بحيث لا تتجاوز سقفًا معينًا وبالقدر الذي يؤثر في قدرة المُستهلك.
فيما يرى المحلل الاقتصادي الدكتور "علي ناصيف" وفي حديث له لبوابة "العين" الإخبارية، أن هذه الأزمة هي أزمة "قديمة جديدة"؛ وذلك لاعتماد الاقتصاد الليبي في الأساس على مصدر واحد وهو النفط، وكل السياسات الاقتصادية التي رُسمت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لأجل إيجاد مصادر أخرى لتمويل ميزانية الدولة بقيت حبرًا على ورق لعجز الدولة عن إيجاد آليات لتنفيذها، وما نعانيه اليوم نتيجة طبيعة يعاني منها أي اقتصاد ريعي يعتمد على مصدر واحد للدخل.
وفي تشخيصه لأسباب ارتفاع الأسعار يرى "ناصيف" أنه من الصعب تحديد عامل واحد واعتباره هو المُسبب الرئيسي لمشكلة ارتفاع الأسعار، ونظرًا لتشابك وتداخل العوامل المؤثر في الأسعار لا يمكن حتى تحديد أولوية لأهميتها وأكثرها تأثيرًا، ولكن يبقى العامل الأمني من أكبر وأهم التحديات التي تواجه الأزمة الاقتصادية، كما يضيف أن الاقتصاد الليبي يعتمد على ما قد يصل إلى 90% من السلع المستوردة من الخارج، ولأن الدينار الليبي عملة غير متداولة خارجيًّا فإننا نحتاج لشراء الدولار والذي سعره مرتفعًا في السوق الموازية؛ نظرًا لعدم قدرة مصرف ليبيا المركزي على توفير الاحتياج من النقد الأجنبي، وهذا بدوره يسهم بشكل مباشر في ارتفاع أسعار السلع.
كما يضيف أنه على الرغم من أن السياسات الاقتصادية في العموم تحتاج إلى فترة من الزمن لتحقق أهدافها، إلا أن الوضع في الحالة الليبية مُختلف ويحتاج إلى انتهاج سياسات إجرائية مباشرة؛ لأن المشكلة تفاقمت كثيرًا وباتت تمس المواطن بشكل مباشر.
جولة في السوق:
أيمن أيوب (34 عامًا) صاحب محل سلع غذائية، تحدث لبوابة "العين" الإخبارية قائلًا، إنه بات يستحيي من الإجابة على سؤال الزبون حول سعر سلعة معينة؛ حيث إن الأسعار ترتفع بشكل كبير جدًّا وفي زمن سريع جدًّا، وأضاف أن أغلب المرتادين للمحل لم يكونوا معتادين على السؤال عن سعر السلع؛ لأنهم كانوا يعرفون سعر كل ما هو معروض في المحل، أما الآن فالأمر مختلف تمامًا، ويعزي "أيوب" السبب إلى أن تجار الجملة هم من يتحكمون في السوق، وهم من يرفعون الأسعار بسبب ما وصفه بأنه (طمع واستغلال).
أما عماد عريبي (39 عامًا) وهو صاحب محل سلع غذائية وخضراوات، قال متحدثًا لبوابة "العين" الإخبارية، إنه أصبح لا يوفر في محله إلا الاحتياجات اليومية والضرورية للمواطنين، وذلك للارتفاع المخيف في سعر كل السلع، أيضًا لانخفاض القدرة الشرائية للمواطن بسبب تأخر صرف المرتبات وعدم توفر السيولة في المصارف.
وبتوجه مراسل بوابة "العين" الإخبارية لأسواق الجُملة كان له لقاء مع التاجر عبد الزراق الشويهدي (42 عامًا) وبرر ارتفاع السلع بأنهم كتجار جملة يتأثرون بأسعار الموردين للبضائع من الخارج، وهم بدورهم مضطرون لشراء الدولار من السوق السوداء لسداد قيمة ما يستوردون من بضاعة من خارج البلاد.
فيما يعتقد تاجر الجُملة فتحي الطرمان (51 عامًا) بأن تجار القطاعي هم من يستغلون هذه الظروف وارتفاع سعر بعض السلع الناتج عن ارتفاع سعر الدولار، ويقومون بدورهم برفع أسعار السلع الغدائية بُغية الربح السريع، مدللًا على ذلك بما حصل في سلعة "الزيت" التي ارتفعت بشكل مخيف الشهر الماضي، ولكن حتى عندما توفرت بسعر مُخفض في سوق الجُملة استمر تجار القطاع في بيعه بسعر مرتفع جدًّا.
بين تأخر صرف الرواتب، وعدم توفر السيولة، وارتفاع الأسعار، وعدم تبني المؤسسات المالية سياسات ناجحة، لا يزال المواطن يتجشم على عاتقه حمل أزمات مركبة، مكابدًا الآلام للحصول على قوت يومه في ظروف صعبة على أمل أن يلامس النور في آخر النفق.