كتبت فى جريدة الأهرام فى 17 سبتمبر الماضى مقالا تحت عنوان «نصنع غذاءنا بأنفسنا»، وأود أن أضيف إلى بعض ما ورد لأهمية الموضوع فى هذا الوقت من تاريخنا.. لقد أثبت لنا تاريخ الأمم أن الحضارة تزدهر على ركائز محددة هي: أولا إنتاج الغذاء بما يفيض عن حاجة الناس لح
كتبت فى جريدة الأهرام فى 17 سبتمبر الماضى مقالا تحت عنوان «نصنع غذاءنا بأنفسنا»، وأود أن أضيف إلى بعض ما ورد لأهمية الموضوع فى هذا الوقت من تاريخنا.. لقد أثبت لنا تاريخ الأمم أن الحضارة تزدهر على ركائز محددة هي: أولا إنتاج الغذاء بما يفيض عن حاجة الناس لحفظه لأوقات الصعاب، وثانيا تقسيم العمل بين الناس، وثالثا الحياة الكريمة فى المدن، وهو ما يؤهل لتقدم وازدهار المجتمع بأكمله.
اتضح ذلك مرارا حيث قامت الحضارة فى مصر القديمة، ثم ما بين نهرى دجلة والفرات ثم فى بلاد الإغريق، كانت هذه هى الحال أيضا فى العصر الحديث كما أثبتت كل من أوروبا وأمريكا ثم الهند والصين، الإبداع الفكرى والتقدم العلمى والتكنولوجى يلزمهم جميعا أفراد يصلهم الغذاء الكافى دون عناء، لكى يمكنهم مواصلة البحث وتحقيق الازدهار، لذلك يلزم إنتاج الغذاء بواسطة آخرين ثم توزيعه ونقله إلى مواقع الاستهلاك، وهو ما يسمى تقسيم العمل.
وتقسيم العمل بين أفراد المجتمع تقسيما مناسبا يصب فى إثراء الحياة الكريمة فى المدن، هذا يعنى وصول ما يحتاج إليه الناس بسهولة إلى مواقعهم لكى يتمكن البعض من الفكر والإبداع والابتكار، مثلا لا يصح أن يقضى الموظف أو الموظفة وقتا طويلا فى البحث عن مطالب العائلة ودخلها، وإلا فلن يقضى هؤلاء بعضا من الوقت فى رفعة مستواهم العلمى أو التفكر فى كيفية رقى أدائهم للعمل، إن إثراء الحياة الكريمة فى المدن هو ما يؤهل لرفعة الأخلاق والتميز الفكرى فى العلم والفنون والكتابة وتنشئة الأجيال الصاعدة فى مناخ يؤهل لرفعة المجتمع ككل.
معنى ذلك أنه مهما نتوسع فى مصر فى الإنشاءات وقمنا بسد الحاجات المتتالية واحدة بعد الأخري، لن يوصلنا ذلك إلى رفعة الوطن بالمستوى الذى نتطلع إليه جميعا، علينا أن نعود إلى تقدير الفلاح والفلاحة للارتفاع بمستوى ما نأكل وصولا إلى الاكتفاء الذاتي.
يذخر التاريخ بقدرات الفلاح المصرى ليس فقط فى مصر القديمة ولكن على مر العصور، فمنذ عصور الإغريق والرومان كانوا يصدرون القمح وأنواعا أخرى إلى بلادهم، كذلك عندما فتح عمرو بن العاص مصر كتب له الخليفة عمر ما يفيد بأن المجاعة فى الحجاز تستلزم الحبوب، سائلا إياه إرسال ما يمكن إرساله من إنتاج مصر، رد القائد قائلا للخليفة ما معناه أنه قد أرسل قافلة جمال محملة بالحبوب المطلوبة «أولها عندك وآخرها عندى».
كذلك يذكر التاريخ الحديث أن والى مصر «محمد على» كان يتأكد من أن «المحمل» يشمل على كل ما يلزم لأهل الحجاز، فى إحدى السنوات لم يكن هناك ما يكفى من الإنتاج المصري، كتب محمد على إلى سلطان دارفور سائلا إياه إضافة ما يمكن إضافته للحبوب المهداة لأهل الحجاز.
هكذا كان وضع مصر عندما كانت تنتج فائضا من الغذاء، وكانت لها مكانة رفيعة بين الدول، منذ فجر التاريخ وحتى وقت قريب.
لذلك فإنى أعاود المناداة برفع شعار »حنَّأكل نفسنا« لكى تعمل الحكومة حيال غرض محدد يمكن الوصول إليه خلال عام أو اثنين، وربما تقوم الأجهزة المعنية بشرح الوضع والوسيلة، ثم تقنين ما يلي:
أولا: تحديد استخدام كل الأراضى المستصلحة وكل ما يستخدم المياه الجوفية فى إنتاج الغذاء فقط، ومنع التصدير منها مهما تكن الصعاب إلا ما زاد على الحاجة.
ثانيا: تشجيع وتسهيل إنتاج الحبوب ـ وخاصة القمح ـ فى أراضى مصر التى تستخدم فى الزراعة بالأراضى الجديدة أو فى وادى النيل والدلتا.
ثالثا: تسهيل وتحسين جمع المنتج ونقله إلى المخازن للإقلال من الفاقد فى أثناء عمليات النقل.
رابعا: دعم الأبحاث العلمية فى الجامعات والمراكز البحثية المختلفة والتى تصب فى زيادة إنتاجية الفدان من الحبوب أو إصلاح صفاتها الوراثية.
خامسا: الارتقاء بإنتاج الخبز الذى يمثل ركنا أساسيا من الغذاء فى مصر منذ فجر التاريخ.
كذلك يلزم تحسين التوزيع ورفع السعر خارج بطاقات التموين للإقلال من الفاقد، طبعا يشتمل المقترح ليس فقط على الحبوب، ولكن كل أنواع الغذاء شاملا ذلك الحيوانات والطيور والفواكه، ليس هناك من شك أنه بالإمكان الوصول إلى الاكتفاء الذاتى من الغذاء خلال عدة أعوام قليلة.
إذا وصلنا إلى هذا الغرض النبيل نستطيع عندئذ أن نركز الجهد لتحقيق كل الآمال المنشودة من رفعة التعليم والخدمات الصحة والبحث العلمى وكل ما نتطلع إليه من رقى وهناء لأهل مصر جميعا.. والله الموفق.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة