أفريقيا خارج أولويات أمريكا.. تحولات أمنية وتحالفات جديدة في الأفق

وسط حديث عن احتمالية تقليص الولايات المتحدة حضورها الدبلوماسي والعسكري في أفريقيا، تتزايد المخاوف من أن يفتح هذا الفراغ الباب على مصراعيه أمام تمدد الجماعات الإرهابية، وترقب لتحولات جيواستراتيجية تعيد رسم خريطة النفوذ بالقارة السمراء.
ووفق خبراء تحدثوا لـ«العين الإخبارية» فإن أي انسحاب أمريكي يتيح الفرصة لتبلور تحالفات أفريقية - آسيوية جديدة، تقودها الصين أو الهند، فضلا عن زيادة النفوذ الروسي.
وبينما حذروا من احتمالية تنامي الجماعات الإرهابية وتدهور الوضع الأمني كون الجيوش الوطنية تفتقر في الغالب إلى القدرة المالية والتقنية لمواجهة هذه التحديات إلا أنهم اعتبروا أن الخطوة ستشجع المحاور الإقليمية الأفريقية على ممارسة دور أكبر في إدارة أمنها الذاتي، والعمل على بناء آليات أمن جماعي حقيقية.
وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الولايات المتحدة بصدد تقليص انخراطها الدبلوماسي في أفريقيا وإغلاق مكاتب تابعة لوزارة الخارجية تعنى بتغيّر المناخ والديمقراطية وحقوق الإنسان، لافتة إلى أن إدارة ترامب تدرس خططا لإغلاق 10 سفارات و17 قنصلية، وتقليص أو دمج موظفي العديد من البعثات الأجنبية الأخرى.
وذكرت الصحيفة أن 6 من السفارات التي اقترحت المذكرة إغلاقها تقع في أفريقيا، وهي أفريقيا الوسطى، وإريتريا، وغامبيا، وليسوتو، وجمهورية الكونغو، وجنوب السودان.
الانعزالية الجديدة
وعن الخطوة الأمريكية المحتملة، يرى الخبير المصري في الشؤون الأفريقية حمدي عبد الرحمن أن انسحاب واشنطن من أفريقيا وخاصة منطقة الساحل سوف يؤثر بشكل كبير على الحرب ضد الإرهاب.
ويضيف عبد الرحمن لـ "العين الإخبارية" أن الوجود الأمريكي والغربي عموما كان له دور كبير للغاية في مراقبة وملاحقة الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام، وكذلك الحد من عمليات تهريب الأسلحة والهجرة غير الشرعية.
هذا الانسحاب في ظل الترامبية الجديدة وفكرة جعل أمريكا قوية وعظيمة مرة أخرى، يسمى بـ"الانعزالية الجديدة"، وفق عبدالرحمن، الذي لفت إلى أن ذلك يثير مخاوف من تصاعد الجماعات الإرهابية وتدهور الوضع الأمني كون الجيوش الوطنية تفتقر في الغالب إلى القدرة المالية والتقنية لمواجهة هذه التحديات بشكل منفرد.
البدائل
الخبير المصري لفت إلى أن هناك فراغا أمنيا واضحا بأفريقيا دفع دول تحالف الساحل للتحالف مع روسيا، ومن ثم فأي انسحاب أمريكي ستكون روسيا هي المستفيد الأول لتعويض غياب الدعم الغربي، مشيرا إلى أن الصين وتركيا والهند عززت حضورها في المنطقة بالتركيز على الاقتصاد أكثر من الأمن، ما يعيد رسم خريطة النفوذ الدولي في القارة السمراء.
هذا التحول قد يدفع أفريقيا إلى مزيد من الاستقطاب، وربما يجعلها إحدى جبهات الحرب الباردة الجديدة في ظل التنافس الدولي على الموارد والممرات الاستراتيجية بالقارة، وفق عبدالرحمن.
ويتفق معه، الخبير المصري في الشؤون الأفريقية رامي زهدي بأن خفض الانخراط الأمريكي في أفريقيا، سواء كان جزئياً أو كلياً، سيمثل تحوّلاً استراتيجياً ذا انعكاسات عميقة على توازنات القوى في القارة.
ويوضح زهدي لـ "العين الإخبارية" أن أمريكا لم تكن اللاعب الأكثر تواجداً اقتصادياً مقارنة بالصين أو حتى تركيا، لكنها احتفظت بدور أمني واستخباراتي محوري، لاسيما في مناطق التوتر مثل الساحل والقرن الأفريقي، إلا أن الانسحاب أو تقليص التواجد سيخلق شعوراً بالفراغ الأمني والسياسي لدى بعض الأنظمة الأفريقية التي اعتمدت بشكل كبير على الدعم الأمريكي، خصوصاً في ملفات مكافحة الإرهاب، وتثبيت الاستقرار، والضغط الدبلوماسي في المؤسسات الدولية.
إعادة ترتيب الشراكات الدولية
وقد تفسر الدول الأفريقية الانسحاب الأمريكي بأنه رسالة على أن الولايات المتحدة لا ترى القارة أولوية استراتيجية، ما يدفعها لإعادة ترتيب شراكاتها الدولية باتجاه أطراف أكثر حضوراً واهتماماً، مثل الصين وروسيا، أو حتى قوى إقليمية صاعدة، خاصة في ظل حروب تجارية مصطنعة أمريكيا، فرضتها واشنطن علي الجميع وأقحمت العالم بها لأسباب ودوافع تدعم الصالح الأمريكي منفردا.
زهدي أكد أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال شريكاً استخباراتياً وعسكرياً مهماً للعديد من الدول الأفريقية، خصوصاً في مواجهة الجماعات المتطرفة في الساحل مثل القاعدة في المغرب الإسلامي وداعش في الصحراء الكبرى، وكذلك حركة الشباب في الصومال وأي تراجع بهذا التعاون سيؤدي إلى ثغرات خطيرة في المعلومات والرصد الميداني.
وتملك واشنطن تفوقاً تقنياً عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة ومنظومات المراقبة، والتي اعتمدت عليها الجيوش الأفريقية والفرنسية وحتى الأمم المتحدة في عملياتها، وسيعقد انسحاب المستشارين العسكريين الأمريكيين أو إغلاق بعض القواعد والمقار اللوجستية عمليات التنسيق متعددة الأطراف، وسيربك الخطط الاستراتيجية للعديد من الجيوش الأفريقية.
وستظهر المشكلات أكثر في المناطق الأكثر هشاشة أمنية وتوترا وفي مقدمتها القرن الأفريقي ثم منطقة الساحل والصحراء، بحسب زهدي الذي لفت إلى أن الفراغ لا يبقى طويلاً في الجغرافيا السياسية.
وعن البديل المحتمل، يرى زهدي أن هناك ثلاث قوى رئيسية جاهزة لملء الفراغ، أولها الصين التي رغم تركيزها التقليدي على الاستثمار والبنية التحتية، فإنها بدأت بالفعل في زيادة حضورها الأمني والعسكري، سواء من خلال قاعدة جيبوتي أو عبر صفقات التسليح والتدريب.
ثم روسيا التي تنتهج سياسة توسعية في التمدد عبر أدوات غير تقليدية، مثل شركات الأمن الخاصة "فاغنر" سابقا والفيلق الأفريقي الروسي حاليا، وتقدم نفسها كبديل غير مشروط للغرب، وهو ما يجذب عدداً من الأنظمة الأفريقية، إضافة إلى أطراف أوروبية مثل فرنسا تحاول إعادة تموضعها، رغم أنها تواجه رفضاً شعبياً متصاعداً في العديد من دول الساحل.
تحالفات جديدة
ووفق المحلل المصري فإن الانسحاب الأمريكي قد يتيح الفرصة لتبلور تحالفات أفريقية - آسيوية جديدة، تقودها الصين أو الهند، كما قد يشجع المحاور الإقليمية الأفريقية على ممارسة دور أكبر في إدارة أمنها الذاتي، والعمل على بناء آليات أمن جماعي حقيقية وقواعد بيانات استخباراتية أفريقية مشتركة، وتطوير منظومات الدفاع الذاتي، بما يحقق قدراً من السيادة الاستراتيجية بعيداً عن مزاج القوى الكبرى.
ويعتقد الباحث السوداني في الشؤون الأفريقية محمد تورشين أن إدارة ترامب لديها قرارات تجاه أفريقيا مختلفة عن الإدارات السابقة، محذرا من أن أي انسحاب سيكون له تداعيات سلبية على التعاون العسكري والاستخباراتي بين أمريكا والعديد من الدول التي تعاني من أنشطة للجماعات الإرهابية في الساحل الأفريقي ودول خليج غينيا.
تورشين أوضح لـ«العين الإخبارية»، أن دول خليج غينيا ستكون الأكثر تضررا ما قد يدفعها للتعاون مع الدول الإقليمية والدولية الأخرى مثل روسيا والصين وتركيا، لافتا إلى أن ذلك يعني أنه ستكون هناك مسارات جديدة لتعزيز تنافس القوى في المنطقة.