مجزرة 1961.. جرح جزائري نازف يطيل الطريق إلى فرنسا
60 عاماً كاملة تمر، الأحد، على مجزرة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 التي نفذها الأمن الفرنسي ضد متظاهرين جزائريين بباريس.
ذكرى تمر وكأنها حدثت بالأمس القريب، وما زالت واحدة من أكثر الندبات التاريخية الاستعمارية الأليمة التي تعكر صفو العلاقات الجزائرية الفرنسية وتلقي بظلالها على مستقبل يبدو غامضاً لسحابة لا يبدو أنها صيفية في ظل تصاعد التوتر بين العاصمتين.
- جزائري ناج من "مجزرة 1961" يروي "مشاهد الموت" على يد الشرطة الفرنسية
- بذكرى "مجزرة 1961".. رئيس الجزائر يرد على اعتراف ماكرون
وعشية كل ذكرى مرتبطة بجرائم الاحتلال الفرنسي (1830 – 1962)، تبادلت الجزائر وباريس رسائل لم تقتصر هذا العام على عناوين الدبلوماسية وإحياء الذكرى بمراسم روتينية، بل كانت مناسبة لـ"مبادرة احتواء الخلاف" من الجانب الفرنسي، وقابلها إصرار جزائري على "عدم التنازل ورفض الفكر الاستعماري لمعالجة ملفات الذاكرة".
بحر دماء
وأحيت الجزائر هذا العام الذكرى الـ60 لمجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول بمراسم رسمية قادها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي قرر أن يكون هذا اليوم من كل عام للوقوف دقيقة صمت وترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في هذه المجزرة البشعة.
وبـ"مقام الشهيد" الذي يعد نصباً تذكارياً لشهداء الجزائر، وقف الرئيس تبون برفقة كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين دقيقة صمت، كدلالة بحسب المتابعين على "ملفات الذاكرة" مع مستعمِر الأمس "لن تسقط بالتقادم".
وفي مثل هذا اليوم قبل 60 سنة، كانت باريس مسرحاً لمجزرة اهتز لها العالم، بدأت ملامحها في 5 أكتوبر/تشرين الأول عندما أمر محافظ شرطة باريس موريس بابون بحظر التجوال "على العمال الجزائريين" دون غيرهم، وهو القرار الذي أجبر "جبهة التحرير الوطني" (الجناح السياسي للثورة) على الدعوة لتنظيم مظاهرة سلمية رافضة للقرار ومطالبة باستقلال الجزائر عن فرنسا، كواحدة من أساليب الضغط على الإدارة الفرنسية.
وعقب ذلك، لبى عشرات آلاف الجزائريين نداء "الجبهة" وخرجوا في مظاهرة حاشدة في حدود الثامنة ليلا متحدين بذلك قرار حظر التجوال، مرددين شعارات أبرزها "تحيا الجزائر" و"الجزائر حرة مستقلة"، وحاملين علم بلدهم.
وأمام المظاهرات السلمية لجأت قوات الأمن الفرنسية التي انتشرت بكثافة وحاصرت المتظاهرين من كل جانب – وفق الشهادات التاريخية – إلى إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين لتبدأ معها أولى المشاهد الفظيعة لمجزرة جديدة لم تحدث تلك المرة على أرض الجزائر بل في قلب باريس.
وخلف ذلك استشهاد بين 300 إلى 400 جزائري وفق تقديرات رسمية جزائرية، فيما ألقي بعشرات جثث الجزائريين في نهر السين، وبقي العشرات منهم في عداد المفقودين إلى يومنا هذا.
كما قام الأمن الفرنسي باعتقال نحو 15 ألف جزائري واحتجازهم في مراكز اعتقال أنشأت خصيصاً لهم، وقاموا بتعذيبهم واستجوابهم بحسب شهادات ناجين.
ووصف المؤرخان البريطانيان "جيم هاوس" و"نيل ماكسماتر" مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بأنها "أعنف قمع مظاهرة في أوروبا الغربية في تاريخها المعاصر"، وذلك في كتابهما "الجزائريون، الجمهورية ورعب الدولة".
اعتراف فرنسي
وللمرة الثانية، سجل "الإليزيه" ثاني اعتراف بـ"همجية" مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول بعد عقود من الإنكار، عقب إقرار الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند عام 2012 بأن تلك المجازر كانت "عارا في تاريخ فرنسا".
وفي خضم تأزم العلاقات بين البلدين، أقرت باريس مرة أخرى بـ"وقائع الجريمة غير المبررة" على حد وصف الرئاسة الفرنسية، معتبرة أن "الجرائم التي ارتكبت في تلك الليلة تحت سلطة موريس بابون لا مبرر لها بالنسبة للجمهورية".
كما شارك، السبت، إيمانويل ماكرون للمرة الأولى بصفته رئيساً لفرنسا في مراسم إحياء ذكرى المجزرة، واكتفى ببيان صادر عن الرئاسة الفرنسية دون الإدلاء بأي حديث مرتجل.
إصرار جزائري
في مقابل ذلك، ردت الرئاسة الجزائرية على بيان نظيرتها الفرنسية بتجديد موقفها الرافض لـ"التنازل" عن ملفات الذاكرة العالقة بين البلدين، وطالبت باريس بما أسمته "التخلي عن النظرة الاستعمارية".
وفي رسالة موجهة عشية الذكرى الأليمة، شدد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على حرص بلاده "الشديد على التعاطي مع ملفات التاريخ والذاكرة بعيدا عن أي تراخ أو تنازل وبروح المسؤولية التي تتطلبها المعالجة الموضوعية والنزيهة".
كما طالب تبون من باريس "النأي عن تأثيرات الأهواء وعن هيمنة الفكر الاستعماري الاستعلائي"، واتهم في المقابل "لوبيات" قال إنها "عاجزة عن التحرر من تطرفها المزمن".
تعقيدات تاريخية
المؤرخ والباحث الجزائري الدكتور أمين بلغيث اعتبر بأن موقف باريس الأخير لا يعدو أن يكون "في سياق الحملة الانتخابية" للرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، لكنه ألقى باللوم أيضا على الجانب الجزائري الذي قال إنه "ليس جاهزا للضغط على باريس".
وفي تصريح لـ"العين الإخبارية" أوضح أنه "الضروري هو ترجمة الأقوال إلى أفعال والجزائر لا تملك الكثير من أوراق الضغط، وننتظر كمؤرخين ومواطنين ومجتمع مدني أن يكون هناك موقف مشرف للأجيال التي ضحت واستشهدت من أجل أن تبقى الجزائر بعيدة عن فرنسا".
وتابع قائلا: "أعتقد أن السيادة الكاملة التي كانت تطالب بها أجيال الحركة الوطنية تبدأ من اللغة وتنتهي عند المصالح وفق قاعدة الند للند، والجزائر بإمكانها الضغط بأدوات أخرى بينها الجالية الكبيرة وقدرات اقتصادية كبيرة".
المؤرخ بلغيث يرى أيضا بأن ملفات الذاكرة ضمن سياق أوسع لعلاقات الجزائر وفرنسا، ويعتقد بأن تلك التعقيدات "يجب أن تحل بعيدا عن الديماغوجية والكذب ويجب أن تكون الصورة واضحة، وأن تكون لنا الشجاعة في الضغط على فرنسا".
أما الدكتور لزهر ماروك أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، فقد أوضح في حديث مع "العين الإخبارية" بأن العلاقات بين الجزائر وفرنسا تعيش "حالة من التصعيد الذي ليس في صالح البلدين".
وأشار إلى أن "التعاون بين البلدين ضروري على كافة المستويات وعكس ذلك سيأتي بنتائج سلبية على البلدين، والعلاقات بين البلدين لها أبعاد تاريخية وحتى سياسية وأمنية".
وأكد على أن "التاريخ والذاكرة يبقيان كمتغير يؤثر بشكل كبير على العلاقات بين البلدين من حين لآخر، لأن هناك لوبي فرنسي نافذ في دوائر صنع القرار الذين خسروا من استقلال الجزائر، وهو اليوم الذي يوظف الذاكرة وتاريخ الجزائر كأداة ضغط على الجزائر حتى تستبعد الجزائر أي ملف ذاكرة في أجندة تحسين العلاقات مع باريس".
واستطرد قائلا: "السكوت عن التاريخ وعدم إثارة الاعتذار فأعتقد أن ماكرون في حملة انتخابية، وصدم الجزائريين من قبل بتصريحاته"، معتبرا أن إقراره بهمجية مجارز 17 أكتوبر/تشرين الأول "لن تغفر تصريحاته السابقة ولا التاريخ الأليم المشترك بين البلدين".
aXA6IDMuMTQ0LjE3LjE4MSA= جزيرة ام اند امز