إنشاء القوة الفضائية هو إعلان رسمي بأن الفضاء قد أصبح مسرحا جديدا للحرب، وميدانا للقتال، وخُطوة جديدة بمجال "عسكرة الفضاء الخارجي"
في وسط الصخب الإعلامي الذي شهدته أمريكا في الأسابيع الأخيرة والمرتبط بقضية عزل دونالد ترامب، وقع الرئيس في 18 يناير/كانون الثاني 2020 قرارا لم تهتم به كثيرا أدوات الإعلام العربية ولم يتوقف أمامه المعلقون بالبحث والتحليل.
كان هدف ريجان هو إجبار الاتحاد السوفيتي، المرهق اقتصاديا، على الدخول في سباق تسلح جديد وفي إنفاق عسكري هائل، وهو ما تحقق بالفعل بإنهاك الاقتصاد السوفيتي الذي أدى في النهاية إلى تقويض أركان الدولة السوفيتية في عام 1991. فهل يسعى ترامب إلى تحقيق الهدف نفسه مرة ثانية مع روسيا والصين؟
نص القرار على إنشاء "القوة الفضائية" لتصبح الفرع السادس من فروع القوات المسلحة الأمريكية، وتضم في المرحلة الأولى جميع العاملين في أمن الفضاء، الذين يصل عددهم إلى نحو 60 ألف عسكري ومدني موزعين على فروع القوات المسلحة وأجهزة المخابرات، وتكون خاضعة لقيادة سلاح الجو.
تتضمن خُطة إنشاء هذه القوة في مراحل تالية إطلاق برنامج تطوير نظام مضاد للصواريخ، وإقامة أجهزة استشعار في الفضاء يكون في استطاعتها رصد إطلاق الصواريخ الموجهة ضد الولايات المتحدة في أي وقت ومن أي مكان وتدميرها بمجرد إطلاقها.
وفي مجال تبريره لهذا القرار، أشار ترامب إلى مصادر التهديد العسكري لبلاده وحددها في أربع دول؛ هي كوريا الشمالية وإيران وروسيا والصين، مُنبها الأمريكيين إلى أن هذه الدول الخصوم تُطور أسلحتها الصاروخية بسرعة فائقة. وربما يعكس هذا الفهم تخوف البنتاجون والرئاسة الأمريكية من تحول ميزان القوة العسكري لغير صالح واشنطن، خصوصا في مجال الحروب غير التقليدية، وهو الشكل الذي سوف تتخذه الحروب القادمة في المستقبل.
وتتالت تصريحات القادة العسكريين من سلاح الجو الأمريكي مُؤكدة أن القُدرة الأمريكية في مجال الفضاء على مدى العقود السابقة كانت "لا مُنافس لها"، و"لا يُمكن التفوق عليها".
ولكن الأمر تغير بسبب الأنشطة المُتزايدة للخصوم في الفضاء الخارجي والتي تهدد الأمن القومي الأمريكي، ما جعل قرار إنشاء القوة الفضائية، وعسكرة الفضاء الخارجي أمرا ضروريا ولازما. وأضافوا بُعدا إضافيا لضرورة استمرار السيطرة الأمريكية على الفضاء، وهو ازدياد اعتماد أغلب الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية كالبنوك والجامعات والإعلام وسائر مظاهر الحياة اليومية الأمريكية على الأقمار الصناعية الامريكية في الفضاء.
وقدَر بعضهم أن الصين وروسيا سوف يمتلكان الأسلحة القادرة على تشويش عمل هذه الأقمار، بل وإسقاطها خلال عامين أو ثلاثة، وأن الولايات المُتحدة لا يُمكنُ أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مثل تلك الاحتمالات. ويستخلصون أن إنشاء القوة الفضائية سوف يكون سلاحا رادعا لخصوم الولايات المُتحدة الأمريكية.
وردا على اتهام الولايات المُتحدة بعسكرة الفضاء، كان رأيهم أن الفضاء الخارجي هو مجال تنافس وصراع بالفعل، وأن عسكرته بدأت بإطلاق الاتحاد السوفيتي القمر الصناعي "سبتونيك" إلى الفضاء في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1957.
وهكذا، فإن إنشاء القوة الفضائية هو إعلان رسمي بأن الفضاء قد أصبح مسرحا جديدا للحرب، وميدانا للقتال، وخُطوة جديدة في مجال "عسكرة الفضاء الخارجي".
لم يكن القرار التنفيذي الذي أصدره ترامب مفاجئا أو دون مقدمات، بل كان محل بحث على مدى شهور وأعوام، وتعود جذور الفكرة إلى عام 2000 عندما اقترح رونالد رامسفيلد – الذي أصبح وزيرا للدفاع فيما بعد - فكرة إنشاء قوة بهدف تعزيز السيطرة الأمريكية على الفضاء الخارجي، ولكن الفِكرة لم تأخذ حظها من النقاش بسبب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وما تلاها من تدخل عسكري أمريكي في أفغانستان والعراق. وفي ظل إدارة أوباما، وافق الكونجرس على مشروع قانون بإنشاء "فيلق فضائي"، ولكن وزارة الدفاع الأمريكية لم تتحمس لتطبيق الفكرة.
وفي إدارة ترامب، تبنى الرئيس الفكرة. وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018، صرح نائبه مايك بنس، بأن أمريكا سوف تحقق سيطرتها على الفضاء على نفس منوال ما حققته في البر والبحر. وفي يونيو/حزيران 2019، طرح الرئيس ترامب الفكرة على مجلس الفضاء الوطني، وذلك لجذب التأييد لها.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، وافق الكونجرس على الموازنة العسكرية لعام 2020، التي كان أحد بنودها إنشاء هذه القوة الفضائية. وكان التصويت في مجلس الشيوخ بموافقة 86 عُضوا ومُعارضة 8 أعضاء فقط، ما يعني التوافُق بين الحزبين الجمهوري والديمُقراطي في هذا الشأن.
ومن مُراجعة التعليقات على إقامة هذه القوة يُمكن تسجيل ملاحظة تناقض موقف ترامب بشأن كوريا الشمالية، الذي كان قد أعلن في عام 2019 عقب لقائه بالرئيس الكوري أن كوريا لم تعد تشكل خطرا نوويا على أمريكا. كما نتوقف أمام القول إن تحول الميزان العسكري لصالح خصوم أمريكا هو أمر غير متصور بالنظر إلى الفجوة في حجم القدرات العسكرية بين الطرفين وحجم الميزانية الأمريكية العسكرية الهائل الذي بلغ 738 بليون دولار في موازنة 2020.
وكان تعليق الروس أن هذا التطور من شأنه أن يزيد من حالة التوتر في العالم. أما وزارة الخارجية الصينية فقد عبرت عن قلقها بشأن عسكرة الفضاء الخارجي، مؤكدة أنه منطقة مُشتركة بين كُل دول العالم وليست ملكا لأي طرف. ومن هُنا ضرورة النأي به أو إبعاده عن سباق التسلُح والحرص على الاستخدامات السلمية له، وحذر البعض من أن هذا القرار ربما يكون بداية سباق تسلح جديد بين الدول الكبرى.
لا بد من وضع قرار الرئيس ترامب في سياقه، وفي إطار ما تقوم به الصين وروسيا من تطوير لقدراتهما العسكرية التي تنصب على أنماط جديدة وأنواع مبتكرة من الأسلحة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحدي الدور العسكري الأمريكي. ومن ذلك الصواريخ الصينية الخارقة التي تتجاوز سرعتها سرعة الصوت بخمس مرات والموجهة ضد السُفن، والتي من شأنها شل حاملات الطائرات الأمريكية، وذلك لأنه لا يوجد نظام دفاعي مُضاد لها يمكنه تدميرها.
وطورت روسيا أنماطا مُتقدمة من الصواريخ المُشابهة لذلك. وتُنافس الصين بقوة في حجم الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي واستخدامه في تطوير أسلحة ذكية ومُدمرة وما يرتبط بذلك من شيوع لأفكار الحرب السيبرانية وحروب الفضاء.
أعاد الإعلان عن القوة الفضائية الأمريكية إلى الأذهان البرنامج الذي تبناه الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الذي حكم خلال الفترة من 1981 إلى 1989 والذي سماه "مُبادرة الدفاع الاستراتيجي"، التي أُطلق عليها في الإعلام "حرب النجوم" أو "حرب الكواكب". وهي المُبادرة التي أعلنها في العام التالي لانتخابه، وكانت تعتمد على استخدام قواعد أرضية ومحطات فضائية واستخدام نظُم الحاسب الآلي لحماية أمريكا وحُلفائها من الصواريخ السوفيتية طويلة المدى. وذلك إبان الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وكان هدف ريجان هو إجبار الاتحاد السوفيتي، المرهق اقتصاديا، على الدخول في سباق تسلح جديد وفي إنفاق عسكري هائل، وهو ما تحقق بالفعل بإنهاك الاقتصاد السوفيتي الذي أدى في النهاية إلى تقويض أركان الدولة السوفيتية في عام 1991. فهل يسعى ترامب إلى تحقيق الهدف نفسه مرة ثانية مع روسيا والصين؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة