خطاب ترامب.. والاستثنائية الأمريكية
استخدام ترامب بعض التعبيرات ليس مُجرد "زلات لسان" بل يمكن فَهمها في ضوء تبني ترامب بعض سمات الشعبوية في مخاطبة الرأي العام.
يدرك جيداً المتابع لخطابات الرئيس دونالد ترامب أنه سوف يدخل التاريخ كواحد من أكثر الرؤساء الأمريكيين إثارة للجدل والخلاف، فقد اتسم خطابه السياسي منذ أن كان مرشحا لانتخابات الرئاسة في 2016 بسمات فريدة. فهو خِطاب صريح وأحيانا جارح، وهو واضح في تصنيفه للأصدقاء والخصوم ولا يتردد في توجيه الانتقادات للحلفاء، وهو خطاب عاطفي يستخدمُ أقل قَدر من الكلمات، ولذلك فإن تعبيراته تكون مليئة بالمعاني والإيحاءات والانفعالات.
يستخدم أحيانا ألفاظا "فجة" بعيدة عن اللياقة الدبلوماسية، والتي تصل إلى حد ابتزاز الآخرين. كما أنه خطاب مباشر وبسيط واختزالي لا يحتاج أي قارئ أو مستمع له إلى بذل جهد كبير في فهمه واستيعابه. فهو يخاطب الجمهور الواسع للأمريكيين مستخدما مفردات لغتهم الدارجة.
وتعد الطريقة التي يستخدمها أي قائد سياسي في خطاباته وتصريحاته أمرا مهما في فهم نمط حكمه ومضمون سياساته. ويُعرّف بعض الباحثين السياسة بأنها العلاقة المتبادلة بين اللغة والسلطة. فلغة الخطاب السياسي هي أداة التواصل والإقناع بين القائد والمواطنين، كما تخلق لدى الرأي العام مجموعة من التوقعات، وتقيم الإطار النفسي الذي يمهد السبيل لاتباع الدولة فعلا أو سلوكا معينا.
وفي هذا السياق، تُمثلُ تغريدات الرئيس الأمريكي على موقع تويتر وتصريحاته الصحفية طِرازا متميزا، والأمثلة على ذلك عديدة في كل المستويات.
فعلى المستوى الداخلي، انتهج ترامب نهجا غير مألوف في توجيه انتقادات مباشرة لسلفه الرئيس أوباما ووصفه لكثير من سياساته وقراراته بأنها سيئة، وأنها فرّطت في المصالح الاقتصادية الأمريكية. بل قام وزير خارجيته في خطابه أمام الجامعة الأمريكية بالقاهرة في يناير/كانون الثاني 2019 بتوجيه انتقادات للخطاب الذي ألقاه أوباما في جامعة القاهرة في عام 2008، وكان ذلك أمرا غريبا، فلم تجرِ العادة أن ينتقد وزير أمريكي رئيسا سابقا خارج الولايات المتحدة.
وأصابت سهام ترامب بعضا من أكبر أجهزة الإعلام الأمريكي مثل: جريدتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، و"شبكة سي إن إن" التلفزيونية، وهي الأجهزة التي اتهمها بتضليل الرأي العام ونشر الأخبار الكاذبة أو الملفقة عنه.
كما وصف طالبي اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية بألفاظ قاسية للغاية، وأنهم ليسوا من بلاد كالسويد بل من بلاد أقرب ما تكون إلى "المراحيض"، على حد وصفه.
ومن هذه الأمثلة: تصريحاته تجاه المُهاجرين المكسيكيين الذين اتهمهم بأنهم مصدر لكثير من حوادث الإجرام والاغتصاب، ووصلت الإجراءات التي اتخذها إلى حد استخدام الجيش لمنعهم من اختراق الحدود والتهديد بإعلان حالة الطوارئ. ومنها مُحاولاته الدؤوبة لإدخال سؤال عن الجنسية في تعداد السكان والتي رفضتها المحكمة العليا لانتهاكها الدستور.
ومنها الاتهامات التي وجهها في إحدى تغريداته في 14 يوليو/تموز 2019 لأربع من عضوات مجلس النواب من الحزب الديمقراطي، وقال إنه ليس من حقهن إعطاء دروس للأمريكيين حول الإدارة السليمة للحكم، لأنهن قد قدمن من بلاد ذات حكومات "كارثية"، ونصحهن بأن يعودن إليها للمُساهمة في إصلاحها بدلًا من انتقاده.
وقد أثار هذا التصريح ردود فعل واسعة؛ لأن النائبات الأربع لسن من ذوات البشرة البيضاء، والأخطر من ذلك أن 3 منهن وُلِدنَ ونشأن في الولايات المُتحدة، والرابعة هاجرت مع أسرتها من الصومال. فقد مسَّت تصريحات ترامب وترا حساسا يتصل بالحقوق المدنية والمساواة بين الأمريكيين، وهو ما دفع نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، وكثير من السياسيين والإعلاميين إلى انتقاده بشدة، واعتبار أن تصريحاته لها نكهة عنصُرية. وأنها تتضمن احتقارا للمُهاجرين الجُدد لأمريكا.
وبعد أقل من أسبوعين، انتقد ترامب في تغريدة أُخرى بتاريخ 27 يوليو/تموز الماضي "أليجا كامينجز" عضو مجلس النواب عن إحدى دوائر ولاية بالتيمور التي وصفها بأنها مكان "خطِر وقذر يعُجُ بالفئران والقوارض" وأنه "لا يوجد آدمي يرغب في الحياة فيه لأنه تسوده الفوضى وهو أسوأ مكان للحياة في الولايات المُتحدة"، ودعاه إلى الاهتمام بأمور الدائرة التي يمثلها. وكان مبعَث هذا الهجوم أن هذا النائب من المُنتقدين لسياسات ترامب، وأنه قام بزيارة لمناطق الحدود مع المكسيك ووصف حالة البؤس التي يعيشها اللاجئون في الخيام.
وقد تكررت الاتهامات للرئيس الأمريكي بأن خطابه يحض على الكراهية، وذلك بعد حادث إطلاق الرصاص بشكل عشوائي في 4 أغسطس/آب الجاري في مدينة "الباسو" -بولاية تكساس- التي تسكنها أغلبية من أصل مكسيكي.
وعلى مُستوى العلاقة مع الدول الأوروبية الحليفة، الأعضاء في حلف الأطلنطي، فقد اتهمها بأنها حققت نموها وازدهارها الاقتصادي في ظل مظلة الحماية التي وفرتها أمريكا لها، وأنه على هذه الدول أن تدفع التزاماتها في موازنة حلف الأطلنطي كاملة لتغطية تكلفة هذه الحماية، وهدد بفرض عقوبات اقتصادية عليها. وفي يوليو/تموز الماضي، وصف الرئيس الفرنسي ماكرون بـ"الحماقة"، وذلك بعد طرح الأخير فكرة فرض ضرائب على شركات المعلومات الأمريكية العملاقة مثل "جوجل" و"فيسبوك". وهدد ترامب بأنه إذا اتخذت فرنسا هذا الإجراء فإنه سوف يرد بفرض رسوم جمركية إضافية على النبيذ الفرنسي في أمريكا، مؤكدا أن النبيذ الأمريكي أفضل بكثير من الفرنسي، وهو ما دفع أحد الوزراء الفرنسيين للرد على هذه التصريحات ووصفها بـ"السخف" و"الغباء".
أما بالنسبة للدول التي تدخل ضمن تصنيف الخصوم والأعداء، فقد وصف ترامب نظمها بالاستبدادية وعدم احترام حقوق الإنسان وأنها تتبع سياسات عدوانية ولا تحترم الاتفاقات الدولية التي أبرمتها. وفي الأسبوع الأول من أغسطس/آب الجاري، وصف ترامب المشكلة في المفاوضات التجارية مع الصين بأنها لا تلتزم بما تم الاتفاق عليه. وترافق هذا التصريح مع وصول وفد المفاوضات الأمريكي إلى مدينة شنغهاي مكان المفاوضات. وفي الأسبوع نفسه، أعلن انسحاب بلاده من اتفاقية الأسلحة النووية متوسطة المدى، واتهام روسيا بعدم تنفيذ التزاماتها وفقا لها. واستخدم ترامب تعبيرات مثل "الإبادة" و"التدمير" لتهديد كوريا الشمالية وإيران إذا لم تغيرا من سياساتهما.
إن استخدام الرئيس ترامب لهذه الألفاظ والتعبيرات ليس مُجرد "زلات لسان" أو سوء تعبير بل هو استخدام مقصود يُمكن فَهمه في ضوء تبني ترامب بعض سمات الشعبوية في مخاطبة الرأي العام، خصوصا الكتلة المساندة له من الناخبين التي أوصلته إلى الحكم وما زالت مستمرة في تأييدها له.
وهي الكتلة التي تتركز في فئات العمال الصناعيين والمزارعين الذين تدهورت ظروف معيشتهم وأوضاعهم الاجتماعية في السنوات الماضية. وقد جاء هذا التدهور من وجه نظر ترامب نتيجة تبني الحكومة الأمريكية مفهوما خاطئا لحرية التجارة والالتزام باتفاقية باريس لحماية البيئة، وما نتج عنه من إغلاق المصانع التي اعتبرتها الاتفاقية مُلوثة للبيئة.
وكان وعد ترامب لهذه الكُتلة بأنه سوف يُغير من هذه الأوضاع، فقرر الانسحاب من اتفاقية باريس وألغى القيود المفروضة على التنقيب عن النفط والغاز الصخريين وتلك القيود المفروضة على استخدام الفحم في الصناعة ومصانع الحديد والصُلب. وأعاد التفاوض بشأن الاتفاقيات التجارية المُبرمة بين أمريكا والدول الأخرى والتي اعتبرها مُجحفة لأنها لم تكفل الحماية الكافية للصناعات الأمريكية، بل شجّعت رؤوس الأموال الأمريكية على الاستثمار خارج البلاد خصوصا في الصين.
اتسم خطاب ترامب إلى هذه الكُتلة بمزيج من استثارة المشاعر الوطنية، والوعد باستعادة عظمة أمريكا، وأن مصالح الأمريكيين لديه تعلو أي اعتبار آخر. وفعل ذلك من خلال مخاطبة العواطف، ودغدغة المشاعر، والوعد بمستقبل أفضل وتعميق اليقين بتحقيقه. وهو بهذا الخطاب يُعيد إلى الأذهان صورة البطل الأمريكي المدافع عن حقوق بلاده والمستعد للمخاطرة والمغامرة من أجل مصالحها. واتسم هذا الخطاب أيضا بتبني سياسات "صدامية" بحجة حماية المصالح الأمريكية فقام بفرض العقوبات الاقتصادية والانخراط في حروب تجارية مع الآخرين.
ركز خطاب ترامب على الاستثنائية الأمريكية وأن أمريكا هي مجتمع عظيم وفريد لا يُدانيه مُجتمع آخر، وأنه يعمل على مُحاربة أي تطور يُهدد تلك الاستثنائية أو يقلل منها، ولذلك اتسم موقفه تجاه اللاجئين والمُهاجرين بالالتباس والعداء وتنمية مشاعر الريبة والشك تجاههم.
يستند خطاب الرئيس ترامب إلى اعتقاد ثابت لديه وهو أن النخب الليبرالية التي حكمت أمريكا وأثّرت على توجهات الرأي العام فيها وتبنت سياسات "العمل الدولي الجماعي وتعدد الأطراف Multilateralism" و"العولمة وحرية التجارة" قد ألحقت ضررا بالغا بقدرات الولايات المتحدة. وتمثل ذلك في تراجع مكانتها الاقتصادية وانخفاض نسبة إجمالي الناتج القومي الأمريكي إلى إجمالي الناتج العالمي وتصاعد قوى دولية أُخرى مُنافسة. ويهدف ترامب إلى وقف هذا التراجع من خلال خطاب سياسي قوي ومؤثر واتباع سلوك "انفرادي" في مواجهة الأصدقاء والخصوم والتفاوض من موقع القوة لتحسين شروط التبادل التجاري والاقتصادي بين أمريكا والدول الكبرى.
فهل يقتنع الناخبون الأمريكيون بقُدرة ترامب على تحقيق ذلك ويُعيدون انتخابه مرة ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020؟
aXA6IDE4LjExOC4xOTMuMjgg جزيرة ام اند امز