المناظرة الأولى بين مرشحي الرئاسة الأميركية دلالتها الأكثر أهمية كانت في ما حدث خارج قاعتها وما لم يحدث خلالها
المناظرة الأولى بين مرشحي الرئاسة الأميركية دلالتها الأكثر أهمية كانت في ما حدث خارج قاعتها وما لم يحدث خلالها، فالمناظرة كانت خالية الوفاض من أي نقاش حقيقي حول القضايا، التي تم التطرق إليها، وانطوت على تجاهل لافت للقضايا الجوهرية فى السياسة الخارجية والداخلية، فضلاً عن أن ما جرى خارج القاعة لم يكن أقل دلالة.
ولنبدأ بما كان يدور خارج القاعة، فاللجنة المعنية بتنظيم المناظرات وضعت سقفاً مرتفعاً لإدراج مرشحي الرئاسة للاشتراك فى المناظرات، فالسقف كان الحصول على 15% من أصوات الناخبين فى طول البلاد وعرضها فى استطلاعين للرأي.
والنسبة بالطبع كبيرة بالنسبة لمرشح لا يمتلك الآلة الضخمة للحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري، القادرة على التمويل والتنظيم والدعاية، فضلاً عن الأموال الهائلة المطلوبة من المرشح غير المنتمي لأحد الحزبين الكبيرين من أجل الدعاية الإعلامية حتى يعرفه الناخبون أصلاً، ثم إن اختيار اللجنة لاستطلاعات بعينها ليس بريئاً بالقطع، لذلك كانت مرشحة حزب الخضر للرئاسة جيل ستين موجودة هي ومؤيدوها، وأغلبهم من الشباب، فى خارج القاعة، احتجاجاً على عدم إدراجها مرشحة ضمن من تتم المناظرة بينهم، لكن الشرطة الأميركية أغلقت كل الشوارع المؤدية للحرم الجامعي الذي انعقدت فيه المناظرة، ووقف المتظاهرون فى المكان المسموح به، فجرت المناظرة على مسافة بعيدة إلى حد كبير عما يدور بشوارع المدينة، لكن المناظرة كانت بعيدة أيضاً عن الكثير مما يدور فى أذهان الأميركيين، فحتى القضايا التي ذكرت مثل الحرب ضد داعش، لم نفهم بخصوصها شيئاً عن مواقف المرشَحين سوى أنهما مع تلك الحرب! وفى الجزء الخاص بالأمن القومى الأميركي، غابت أغلب القضايا الدولية المهمة، فقد كان لافتاً ألا يسأل المحاور ترامب عن تصريحاته بشأن إمكانية استخدام السلاح النووي، ولافتاً بالقدر نفسه أنه لم يوجه لكلينتون سؤالاً واحداً عن دورها فى أميركا اللاتينية، كونها وزيرة للخارجية، أو حتى عن تبنيها لفكرة التركيز على آسيا، المسؤولة اليوم عن الصراع فى بحر الصين، وبالطبع لم تأت المناظرة على ذكر حجم المساعدات العسكرية غير المسبوق لإسرائيل.
وقد سألتني واحدة من طالباتي النابهات، كيف يمكن أن يكون العالم كله مشغولاً بقضية اللاجئين هرباً من ويلات الحروب والفقر، ولا يتم مناقشة تلك القضية المهمة بين المتناظرين الساعين للفوز بمنصب الرئيس فى الولايات المتحدة؟! فقلت لها، لا تقلقي سوف تتم مناقشة تلك القضية تحت مسمى «الهجرة»، وستسمعين كلاماً كثيراً عن حيطان لا بد أن تبنى، ومهاجرين يتحتم حظر دخولهم!
أما القضية الأولى لدى الأميركيين وهى الاقتصاد، فلم تتم خلال المناظرة طبعاً مناقشة الفجوة الهائلة فى الدخل بين الأغنياء والفقراء فى الولايات المتحدة. فتلك قضية لن يناقشها ترامب الملياردير، ولن تناقشها كلينتون التي لا تقل ثراء، بل ومدينة بتمويل حملتها الانتخابية لنخبة من أهم الأثرياء الأميركيين. واللافت للانتباه أن تجاهل القضية فى المناظرة جرى بينما ويلز فارجو، أحد أهم البنوك الأميركية، مثل أمام القضاء فى جريمة نصب على المواطنين الأميركيين!
وفى الوقت الذي انعقدت فيه المناظرة عشية مقتل عدد من السود على يد رجال الشرطة، غابت قضية عدم عدالة النظام القضائي الجنائي الأميركي تماماً عن المناظرة، وحل محلها اتهامات متبادلة بالعنصرية، وعبارات سطحية من كلا المرشحين حول ضرورة «التعاون بين المجتمع والشرطة».
غير أن اللافت للانتباه حقاً أن كل القضايا التي تهم شباب أميركا من مختلف العرقيات والإثنيات، ومنها ما سبق، فضلاً عن قضية الديون الباهظة، التي يئن منها الشباب مقابل تعليمهم، وتظل تقصم ظهورهم لفترة فى مقتبل حياتهم المهنية لم يذكرها المحاور، ولم يتطرق لها أي المرشحين. وقضية البطالة تظل هي الأخرى من القضايا المهمة لأولئك الشباب، التي لم تهتم بها المناظرة التي تجاهلت فى الوقت ذاته قضيتي الرعاية الصحية والبيئة والاحتباس الحراري.
والمفارقة هنا بالغة الدلالة، فهؤلاء الشباب الذين يشكلون، حسب النيويورك تايمز، نحو 75 مليون أميركي، هم القوة الحقيقة وراء أغلب الحركات الاجتماعية الموجودة اليوم فى الولايات المتحدة وهم، فى أغلبهم، من الرافضين لترامب، لكن رغم ذلك، فإن هيلاري كلينتون منذ رشحت نفسها فى 2008 لديها مشكلة حقيقية مع ذلك الجيل ذكوراً وإناثاً، بالمناسبة، وهي لم تفلح أبداً فى التواصل معهم.
المفارقة إذاً هي أن هذا الجيل الذي كان مع ساندرز ثم وقف بعض رموزه خارج قاعة المناظرات مع المرشحة جيل ستين، وينوي بعضه الآخر الامتناع عن التصويت كلية، احتجاجاً على الوضع السياسي عموماً، كان بعيداً تماماً عن أذهان من نظموا المناظرة وعن إجابات المرشحَين اللذين تبارزا فيها، بل وعن أسئلة المحاور، الذي لم يتطرق لقضاياهم، رغم أن موقفهم يوم الاقتراع العام قد يحسم المعركة سواء أعطوا أصواتهم لمرشح من غير الحزبين أو امتنعوا عن التصويت!
نقلا عن / البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة