قانون "جاستا" لن يمرّ، لأن مرحلة العربدة والعبث بالقانون الدولي، والتفرد بصناعة السياسات، قد انتهت
قانون "جاستا" لن يمرّ، لأن مرحلة العربدة والعبث بالقانون الدولي، والتفرد بصناعة السياسات، قد انتهت بعد سقوط نظام الأحادية القطبية، وتشكل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب
تعدّ المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، تحولا سياسيا، وتطورا رئيسيا في القانون الدولي، وفي تأسيس أطر إنسانية ناظمة للعلاقات الدولية.
فقد كان مألوفا في المراحل السابقة، سيادة قانون حق الفتح، وهو قانون سيادة القوة، وتوسع الإمبراطوريات على حساب مصالح الشعوب.
وبموجبه تم احتلال معظم بلدان العالم الثالث. ويشار إلى إعلان حقوق الإنسان، والمبادئ الأربعة عشرة التي عُرفت بمبادئ ويدرو ويلسون، كمحطة رئيسية لهذا الانتقال، هيأت للحديث عن نهاية عصر الاستعمار، وانتصار مبدأ حق تقرير المصير، لجميع الشعوب.
ونظريا على الأقل، تأسست على قاعدة هذه المبادئ، عصبة الأمم. لكن مبادئها، والضجيج العالي الذي ارتبط بتلك المبادئ، لم يمنع سيادة منطق الهيمنة الغربية، المغلف في تلك الحقبة، بدعاوى إنسانية، خلاصتها أن شعوب هذه المنطقة وأوضاعها السياسية، لا تتيح لشعوبها إدارة مصائرهم وأقدارهم، وأن دور القوى الكبرى التي بشرت بالحرية والمساواة، هو الأخذ بيد هذه الشعوب، وإدارة أمورها في مرحلة اعتبرت انتقالية، ريثما تكون مؤهلة، وعلى قدم المساواة مع شعوب العالم الأخرى، للالتحاق بركب المجتمع الدولي.
وعلى قاعدة الأخذ بيد شعوب هذه المنطقة، نحو الرقي والتقدم، دخلت في القاموس السياسي مفردات جديدة: كالوصاية والحماية والانتداب، غلفت مفاهيم الاحتلال القديمة، بأغلفة إنسانية، لكنها لم تختلف في الجوهر والممارسة، عن أشكال الاحتلال السابقة، نهب وسطو على الثورة، وقمع لإرادة شعوب هذه المنطقة، وتطلعها نحو الحرية والاستقلال.
وقد أكدت التطورات اللاحقة، أن اليانكي الأميركي، كان في حينه يتأهب للخروج من خلف المحيط بقوة إلى ميدان الهيمنة، وأنه من خلال فرضه المفاهيم الجديدة، في العلاقات الدولية، كان يضع اللبنات الأساسية، لسياسة إزاحة أوروبا القديمة من المشهد الدولي، والإحلال محلها، في منطق الهيمنة، تحت يافطات وأطر سياسية جديدة، وهذا ما حدث.
انتهت الحرب العالمية الثانية، وتأسست هيئة الأمم المتحدة، وصدر ميثاقها على قاعدة المبادئ التي بُشّر بها من الرئيس الأميركي ويلسون.
وأهم هذه المبادئ حق الشعوب في السيادة وتقرير المصير، وعدم التدخل من قبل أية دولة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وقد أرست هذه المبادئ، للمرة الأولى في التاريخ الإنساني، انتصار القانون على القوة.
وقد اعتبر صدور ميثاق الأمم المتحدة، خطوة رئيسية، على طريق تعضيد التطلعات المشروعة للشعوب في الاستقلال والسيادة.
لكن ذلك لم يمنع، بعد سنوات قليلة من صدور الميثاق، من تنفيذ وعد بلفور، بتدشين المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، على حساب حقوق شعبها، وتشريد أكثر من 700 ألف من السكان الأصليين خارج ديارهم، وقيام "إسرائيل" في تحد صارخ لميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ حقوق الإنسان.
واستمر الصراع، منذ حينه بين توق مشروع لسيادة القانون على لغة القوة، وبين التنكر للمواثيق الأممية، وانتصار لغة القوة على مبادئ القانون.
لكن التطور التاريخي كان يسير باستمرار، لصالح تغليب مبادئ الأمم المتحدة، والقوانين الناظمة للعلاقات الدولية.
ويشار في هذا السياق إلى الحرب الباردة التي امتدت أكثر من 5 عقود، كعنصر رئيسي في ضمان صيانة مبادئ الأمم المتحدة، وترصين العلاقات الدولية، وعدم تعريض السلم العالمي إلى الانفلات.
لكن انتهاء الحرب الباردة، في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، جعلت المارد ينفلت من عقاله، فكانت النتيجة هيمنة الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ تلك الفترة على الأمم المتحدة، وصناعة القرار الدولي، وتعبيد الطريق لاحتلال أفغانستان والعراق، بعد أحداث 11 سبتمبر مطلع هذا القرن.
قانون جاستا الذي صدر عن الكونجرس الأميركي، والذي مارس الرئيس باراك أوباما تجاهه، حق النقض، ورفض ذلك بأغلبية ساحقة من الكونجرس الأميركي، هو استمرار سيادة قانون القوة، والتنكر لمبادئ القانون الدولي.
وهو قانون لن يقدر له أن يمر، ذلك أن مرحلة العربدة والعبث بالقانون الدولي، والتفرد بصناعة السياسات، قد انتهت بعد سقوط نظام الأحادية القطبية، وتشكل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
إن قانون جاستا، رغم أنه بالدرجة الأولى موجه في نصوصه، ضد المملكة العربية السعودية، لكن أبعاده تتجاوز كثيرا حدود نصوصه.
إنه اعتداء واضح وصريح على ميثاق هيئة الأمم المتحدة، التي تؤكد على مبدأ السيادة وعدم جواز التدخل في شؤون الدول الأخرى.
وهو استعادة لمبدأ هيمنة لغة القوة، على القانون. والكونجرس الأميركي بهذا القرار ينصب نفسه مدعيا وقاضيا وحكما في قضية تتجاوز صلاحياته، التي لا تؤهله لاتخاذ قرارات تمس الدول الأخرى.
وهذا القانون، ينطلق من نظرة عنصرية، طغت بوضوح بعد سقوط الحرب الباردة، وقد جاءت تطورات السنوات الخمس الأخيرة، لتسدل الستار نهائيا على تلك الحقبة، وذلك هو ما يلخصه القول بوجود ترسانة من الخيارات السياسية بالنسبة للمملكة، في مواجهة هذا القرار.
وهكذا، فإن التصدي لقانون جاستا، الصادر عن الكونجرس الأميركي، ليس دفاعا عن النفس فقط، ومحاولة لكبح جماح الابتزاز، ورفض لغة الهيمنة والقوة، بل هو مسؤولية وطنية وأخلاقية، وهو محاولة استعادة لروح المبادئ التي انبثقت عن هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب الكونية الثانية.
ولذلك، فإن هذه المهمة، وإن كانت تقع بالدرجة الأولى علينا، لكنها مسؤولية كبرى، ينبغي أن يضطلع بها العالم المتحضر بأسره، ضمانا للسلم العالمي، وانتصارا للقانون على لغة القوة.
نقلا عن / الوطن
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة