العقاد في "اللغة الشاعرة".. عبقرية التكوين الفني للغة الضاد
من بين أهم ما قدمه العقاد عن اللغة العربية كتابه "اللغة الشاعرة"، وهو واحد من أعذب كتبه وأثراها.. بحث أصيل في جمال وعذوبة اللغة العربية
لم يعد الاحتفاء باللغة العربية في يومها العالمي (18 ديسمبر من كل عام) يقتصر على التمجيد والاستدعاءات النصية التي تباهي وتفاخر بجمال العربية بين لغات الدنيا، بل تم تجاوز هذا الأمر بإعادة الاعتبار لكل ما هو علمي ومنهجي ورصين في إعادة النظر لوضعية هذه اللغة بين لغات العالم من ناحية، ومن ناحية أخرى إعادة كشف وتحليل أهم الكتابات التي تناولت اللغة العربية؛ جماليا وفنيا، ودراسة خصائصها التركيبية والصوتية.
ويظل من بين الكثير من المبادرات والفعاليات لإعادة اكتشاف نضارة وبهاء وجمال اللغة العربية، البحث العميق عن خصائصها ووضعها في مجمل الثقافة العربية والفكر العربي، القديم والوسيط والحديث على السواء، وذلك من واقع مراجعة إنتاج عدد من أعلام هذه الثقافة الأفذاذ ممن نذروا حياتهم وجهودهم لخدمة اللغة والثقافة العربية، تأليفا وترجمة وتحقيقا، وغيرها من وجوه النشاط والإنتاج.
من بين هؤلاء الكاتب الراحل عباس محمود العقاد (1889 - 1964) الذي خصص أكثر من كتاب بكامله لدراسة اللغة العربية وتاريخها وخصائصها، وقدم لونا من البحث المقارن العميق بينها وبين مثيلاتها من اللغات قديما وحديثا. من بين أهم ما قدمه العقاد في هذه الدائرة كتابه البديع صغير الحجم الشهير بـ "اللغة الشاعرة"، وهو واحد من أعذب كتب العقاد وأثراها، بحث أصيل في جمال وعذوبة اللغة العربية، وما تحمله من خصائص ذاتية، صوتا وتركيبا، جعلته يجزم بأنها "لغة شاعرة".
يقول العقاد إن اللغة العربية وصفت قديمًا وحديثًا بأنها لغة شعرية، وإن الذين يصفونها بهذه الصفة يقصدون بها أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وإنها لغة مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون، كما يقصدون بها أنها لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة، وتعبير المجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات.
ويرى العقاد أن اللغة العربية التي وصفها بأنها "لغة شاعرة" ذات موسيقى، مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما تمتاز عن سائر اللغات بحروف تفي بكافة المخارج الصوتية، وتستخدم جهاز النطق أحسن استخدام، فتنفرد بحروف لا توجد في أبجدية سواها كالذال والضاد والظاء.
وهي كذلك، بحسب العقاد لغة ثرية بمفرداتها الفصيحة الصريحة التي تحمل بداخلها موسيقى خفية، فنجد أن الشعر العربي "ديوان العرب وسجل أحوالهم ووقائعهم وحامل تراث ثقافتهم وتقاليدهم"، المنظوم من تلك المفردات، منفرد باجتماع القافية والإيقاع والأوزان القياسية في آنٍ واحد. وتتميز العربية، وفق بحث العقاد، بوضوح أزمنتها وعدم اللبس فيها.
وعلى مدار صفحات الكتاب يصحبنا العقاد فى رحلة فنية سريعة تُمتع الأنظار والأفهام بجماليات لغة القرآن، مناقشًا شبهات المستشرقين المشككين في جماليات هذه اللغة وعلو شأنها، متبعًا أسلوبه العلمي الرصين ومسلحًا باطلاعه العميق على علوم اللغة.
وإذا كان بعض الشعراء يتعاملون مع اللغة على اعتبار أنها مقدسة تكتسب قداستها من القرآن، فإن العقاد كان يكتب بمعزل عن هذه الفكرة، ويحاول أن يكتشف ما تتميز به اللغة العربية عن اللغات الأخرى، من الواقع المتعين ومن خلال المادة اللغوية الزاخرة بها، ودونما أي انتقاص من أية لغة أخرى، وانطلاقا من أن اللغات الأخرى لا تخلو من المزايا.
أما موسيقى الشعر في اللغة العربية، كما يوضح العقاد، فتختلف في العربية عنها في اللغات الأخرى، فاللغة العربية تتكون من حروف وكل حرف إذا أبدلته من الممكن أن تصنع وتجعل منها صيغا أخرى متعددة ومتنوعة بحسب الاشتقاق والضبط، وهذا ليس موجودا فى اللغات الأخرى، فاللغة العربية تتدعم بالتوافيق والتباديل إذا ثبت التشكيل فيجعل منها عددا هائلا من الصيغ والاشتقاقات.
كذلك فإن موسيقى الشعر في اللغات الأجنبية تختلف عن اللغة العربية؛ فبداخلها توالي حركات وسكنات والكلمة الواحدة تتكون من متحرك وساكن، والصيغ الصرفية صيغ موزونة.
حينما كتب العقاد هذا الكتاب عن "اللغة الشاعرة" كانت فكرة امتلاك الحرف والمفردات باللغة العربية لموسيقاها الخاصة والداخلية التى تحيل الكلمة من الشكل المسطح إلى فضاء شعري ما تهيمن على ذهن ووجدان العقاد، ولهذا ركز العقاد تركيزاً كبيرا على تبني حالة موسيقى الحرف أو الصوت، كأنه أراد أن يقول إن اللغة العربية هي لغة نطق الموسيقى في ذاتها، وأن موسيقى الحرف في نطق الحروف من أقصى عمق داخل الجهاز الصوتي حتى الشفاه، فهي اللغة الشاملة لهذا الجهاز وهو في الحقيقة ما يتيح للغة العربية هذا الامتلاء الفني بمفرده.
توصل العقاد للنتيجة السابقة انطلاقا من أن جهاز النطق لدى العرب هو تفاعل بين الإنسان والبيئة، لذلك نجد جهاز النطق يستخدم كل الإمكانات الموجودة كي يصل إلى أقصى إفادة واستفادة من مخرجات الأصوات وتوالف الحروف وتكوين الكلمات والمفردات، ودلل العقاد على ذلك بكثير من الأمثلة والشواهد الشارحة التي تثبت وتدعم فكرة أن اللغة العربية "لغة شاعرة" بذاتها وتكوينها.
aXA6IDUyLjE1LjIzOC4yMjEg جزيرة ام اند امز