مشكلتنا الكبرى أننا نكتشف خطأ تفكيرنا بعد أن نخسر كل شيء وهو مرض أصاب التاريخ العربي مع الكثير من قضايانا القومية.
أعلم بأن هناك رفضاً سياساً وشعبياً عربياً قاطعاً لأي تناول يعطي مؤشراً إيجابياً فيما يخص "صفقة القرن" التي أعلن عنها مستشار وصهر الرئيس الأمريكي، جاريد كوشنر، خاصة بعد ورشة التي انعقدت، مؤخراً، في العاصمة البحرينية المنامة، مع أن أغلب الناس لا يعرفون ماهية تفاصيلها تحديداً.
الحديث الذي يردده الناس، بما فيهم المختصون، حول هذه الصفقة أنها استسلام العرب والتنازل عن حقوقهم للإسرائيليين، لذا فإن مجرد التفكير فيها بحسن النية قد يؤدي بك إلى الشتم واتهامك بالخيانة، لكن ما ينبغي أن ندركه جميعاً أن هذا المشروع أصبح أحد العناوين الرئيسية في الاستراتيجية الأمريكية فيما يخطط للمنطقة وبالتالي علينا التعامل معه بطريقة مختلفة تتعدى مسألة الرفض فقط وإلا سنجد أنفسنا في خانة الخاسرين.
أغلبنا ممن سمحت له الظروف أن يتابع تعامل العرب مع المشاريع السياسية التي لها علاقة بالقضية الفلسطينية بدأ من عام 1948 إلى توقيع اتفاقيات أوسلو يجد أن الرفض غالباً ما يكون سيد الموقف، بل اتهام من يتعامل معها أو يقبلها ولو نظرياً بالخيانة هي أبسط تهمة ضده، والغريب أننا نكتشف بعد مرور فترة من الزمن أننا نقوم "بعض أصابع" الندم على ما تم من المواقف العربية ونتذكر مواقف من حاولوا أن يتعاملوا معها بمنطقية وواقعية سياسية. فعلى سبيل المثال، فإن مسألة استعادة الأراضي المحتلة في 1967 تم رفضها ومشروع الأرض مقابل السلام بين مصر وإسرائيل التي دفع الرئيس المصري أنور السادات حينذاك حياته ثمناً لموقفه لم يكن نصيبها أفضل من سابقته. اليوم هناك تباكي رؤيته وبصريته، خاصة بعد أن استعاد أرض بلاده في حين أن الجولان تم الإعلان عن ضمها لإسرائيل مؤخراً.
نحن نتعامل مع التوجهات الدولية أو الأمريكية بالأحرى بالعاطفة السياسية معتبرين أن ذلك سيدفع من يخطط ضدنا أن يتوقف عن مشاريعه ونتناسى متعمدين أننا بذلك نقضم حقوقنا ونعزل أنفسنا لحين نكتشف أن كل شيء تم في غير صالحنا ونعود نبكي على رفضنا لأشياء لا ندرك ماهية أصلها
القضية الفلسطينية وشعبها باتا عبارة عن وقف وسلعة سياسية لمن يريد أن يكوّن شعبية له من المزايدين من قادة أو أنظمة مثل النظام الإيراني الذي يتاجر بها أو الرئيس التركي أردوغان أو تنظيم سياسي ديني مثل "الإخوان المسلمين" لكسب التأييد العربي والإسلامي بالصوت العالي والصراخ فقط دون مواقف حقيقية؛ حتى أدى إلى عزوف بعض الغيورين عن الدفاع الحقيقي انتظاراً لتحديد وتبيان مواقف من يتقنون فن الأصوات العالية، لكن يكون الوقت قد فات بالفعل.
منذ أن وصلت إدارة الرئيس دونالد ترامب للسلطة برز متغير سياسي جديد في التعامل مع القضايا والأزمات العربية والعلاقة مع إسرائيل. ألا أنه للأسف هذا المتغير يصب في صالح إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية التي تعطيها ميزة التفوق السياسي، وتتعاظم تلك المكاسب مع استمرار الرفض العربي لكل المبادرات الغربية على اعتبارها "صفقات" ضد العرب والفلسطينيين وليس "فرصا" يمكن الاستفادة منها والبناء عليها، على الرغم من أن هناك تخوفا من أن نندم في المستقبل من هذا الرفض. وإذا كان جاريد كوشنر قد اعترف أنه أدرك أن الوقت غير مناسب للتركيز على البعد الاقتصادي في إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية أي أنه اعترف بفشل "ورشة المنامة"؛ إلا أن الأمر الذي ينبغي أن نعيه أن ذلك لا يعني أن المشروع قد انهار ولن يرى النور مستقبلاً، كما نتمنى.
مع كل طرح لحل القضية الفلسطينية "ينشق" العرب إلى: من يحاول أن يتفاعل مع المبادرة إيجاباً لعله يخرج بشيء لصالح الشعب والقضية الفلسطينية كما حدث لموقف الرئيس التونسي بورقيبة قبل حرب عام 1967 عندما طرح فكرة "خذ ثم طالب" وبفكرة الرئيس المصري أنور السادات بالتفاوض، وبين من يرفض بالقطع في تناول الموضوع وكأننا نتعمد ونصر على إبعاد أنفسنا من المسرح السياسي العالمي.
نحن نتعامل مع التوجهات الدولية أو الأمريكية بالأحرى بالعاطفة السياسية معتبرين أن ذلك سيدفع من يخطط ضدنا أن يتوقف عن مشاريعه ونتناسى متعمدين أننا بذلك نقضم حقوقنا ونعزل أنفسنا لحين نكتشف أن كل شيء تم في غير صالحنا ونعود نبكي على رفضنا لأشياء لا ندرك ماهية أصلها كما نفعل الآن مع ما يطرح من مشروع "صفقة القرن"، ونتركها ليتاجر بها أصحاب المشاريع السياسية والدينية في المنطقة.
لا شك أن الذين ينادون برفض مؤتمر المنامة لأنه يناقش القضية الفلسطينية بمقاربة مختلفة عما اعتدنا عليها أو ما يعرف بالحلول من "خارج الصندوق"، لا يعرفون أنهم يرسخون بل يوفرون الحجة التي تسمح للدول الإقليمية بالمتاجرة فيها.
مشكلتنا الكبرى أننا نكتشف خطأ تفكيرنا بعد أن نخسر كل شيء وهو مرض أصاب التاريخ العربي مع الكثير من قضايانا القومية!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة