الكاتب المصري أشرف العشماوي: خرجت من "بيت القبطية" إلى العزلة
حوار مع الكاتب المصري أشرف العشماوي يمر على أجواء الكتابة والعزلة وعالم روايته الأخيرة "بيت القبطية" وما تطرحه من تساؤلات
يتأمل الكاتب والروائي المصري أشرف العشماوي أجواء العزلة المفروضة على العالم هذه الأيام، ويعكف على مواصلة مشروعه الروائي الجديد الذي تمنحه العزلة الحالية فرصة أكبر للعمل على تفاصيله وسرده.
في الحوار التالي حديث عن العزلة والكتابة، ومحطة روايته الثامنة "بيت القبطية" والصادرة أخيرا عن "الدار المصرية اللبنانية" التي تتقاطع عبر مساراتها السردية مصائر أبطالها مع تيمات المحبة والعدالة والأمان.
ومن أبرز روايات أشرف العشماوي "زمن الضباع"، و"تويا" التى وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر للرواية العربية 2012، و"البارمان" التي فازت بجائزة أفضل رواية من الهيئة العامة للكتاب لعام 2014، و"المرشد" ورواية "كلاب الراعي" التي فازت بجائزة أفضل رواية تاريخية من ملتقى مملكة البحرين الثقافي لعام 2019، ونالت أعماله نصيبا من الترجمة إلى عدد من اللغات الأجنبية.
وإلى نص الحوار..
كيف تتأمل فترة العزلة التي يعيشها العالم حاليا؟.. وبشكل شخصي هل ترتبط لديك العزلة بشكل عام بالكتابة والإنجاز أكثر؟
- الحقيقة أنا أحب العزلة بطبيعتي، تساعدني في الكتابة بشكل أفضل، منذ يناير/كانون الثاني الماضي بدأت رواية جديدة ومستمر بشكل جيد منذ الحظر بالطبع، حاليا العزلة التي يعيشها العالم تذكرني بأجواء لم أعشها، لكني قادر على تخيلها وكتابتها في إحدى رواياتي.. أجواء الحرب العالمية الثانية، وأظن أننا بعد هذه الأزمة ستتغير لدينا مفاهيم كثيرة في الحياة، أمور كثيرة ستتبدل، العالم الآن يبدو كمدينة مقفرة مهجورة، وغالبيتنا لن يتعافى بسهولة إذا استمر الوباء لشهور مقبلة، سنحتاج وقتا طويلا للعودة وأظن أنها ستكون في سياق مختلف، سنكون أكثر حذرا في كل شيء، سنعيد التفكير في كل الأمور، وعلاقاتنا بالناس والأماكن، ستتغير نظرتنا للحياة، وسيؤثر ذلك في سلوكياتنا بشكل كبير. ربما تأمل هذا الأمر بتفاصيله في السنوات القليلة المقبلة يمكن أن ينتج أعمالا فنية وأدبية.
في روايتك "بيت القبطية"، هل أفادتك مرجعيتك في العمل بسلك القضاء في رسم شخصية "نادر بك فايز" بطل الرواية؟
- بالطبع أفادتني لدرجة كبيرة، كنت أكتبني إن جاز التعبير، لأن أي شخصية أكتبها أو أرسمها قبل السرد تحتاج لمعايشة واختلاط معها قبل الكتابة، لأتشربها وأنقلها بعد ذلك وفقا لرؤيتي المتفقة مع فكرة العمل، الأمر هنا كان أسهل بالطبع بكثير، أنا عملت في نفس مهنة البطل وما زلت، مررت بتجربة شبيهة، لدي تساؤلات وهموم كنت أريد إسقاطها من فوق كتفي بعد ما أتعبني حملها وأرهقني كثيرا كتمان السر. هذه رواية كنت أحتاج لكتابتها لنفسي أولا قبل أن تكون للقارئ.
في الرواية تحية خاصة لتوفيق الحكيم وعمله الخالد "يوميات نائب في الأرياف".. حدثنا عن هذه التحية الأدبية.
- الأستاذ توفيق الحكيم من كتابي المفضلين، أراه مفكرا وفيلسوفا أكثر منه روائيا، وأرى إبداعه في فن كتابة المسرحية يكاد يضعه في الصفوف الأولى عالميا بسهولة، أردت من الإشارة إلى عمله الأشهر بروايتي أمرين؛ الأول توجيه تحية من تلميذ لأستاذه، خصوصا أن ما يجمعنا هو السلك القضائي والاتجاه للكتابة الإبداعية بعد ذلك، الأمر الثاني أن ما يفصل أحداث روايتي عن تجربته في "يوميات نائب في الأرياف" يزيد على ثمانين عاما، ومع ذلك لا شيء تغير، هذا أمر كارثي، يستحق أن نقف عنده ونتأمل أحوالنا بعمق وصدق، كان ذلك بالمناسبة أحد دوافعي لكتابة رواية "بيت القبطية"؛ أن لا شيء تغير.
اعتنيت كثيرا برسم شخصية "هدى" الفتاة الهاربة بين الحقول صاحبة البركة كما وجدها أهل القرية.. ما تحديات صياغتك لتلك الشخصية بطلة الرواية؟
- شخصية هدى حبيب من خيالي لم ألتقِ بها ولم أقترب منها، لكنها كانت حاضرة منذ طرأت الفكرة وبدأت في السرد، التحدي الأكبر كان في اختيار ثقافة البطلة هل هي قروية بسيطة أم فتاة متعلمة من أصل ريفي، اخترت الثانية لأقول على لسانها كل ما أريد قوله، باعتبار أنني اخترت ضمير المُتكلم في بناء روايتي، وأظن لو كنت لجأت لطريقة الراوي المصاحب أو العليم لكنت جعلتها ريفية بسيطة وكتبت عن أحلامها بصورة أكبر، هذا الاختيار هو التحدي وهو ما أتعبني في البداية بسبب حيرتي في البناء، جربت الأمرين في المسودة الأولية، الراوي والمتكلم، وفي النهاية اخترت أن يكون البناء عبارة عن تقاطع صوت هدى حبيب مع بطل الرواية نادر فايز ليحكي كل منهما ما يراه من وجهة نظره. وجدت أن هذا البناء أفضل وسيلة لتقديم فكرتي والسرد بشكل جيد وسلس ومشوق للقارئ وأرجو أن أكون قد وفقت.
يجد "نادر بك فايز" البطل نفسه في مواجهة بين تحقيق العدالة وروح القانون والتعامل مع مواريث طاعنة في الجهل والخرافات واخترت له نهاية مفتوحة في النهاية.. كيف رسمت تلك المعضلة؟
- المعضلة بدأت معي شخصيا ونقلتها إلى نادر عبر الرواية، ربما كانت بعض هذه الأفكار تراودني في البدايات ثم زاد إلحاحها على عقلي كلما توغلت في وظيفتي، فكرة العدالة والرمز المعصوب العينين والتبعية التدريجية الرئاسية والشهود الذين يكذبون، وثقافات وموروثات كثيرة تتحكم فينا خصوصا في الأرياف، تقيدنا وتغل أيدينا، ماذا يفعل نادر فايز كمحقق قضائي أمام كل هذه التحديات؟ طرحت كثيرا من الأسئلة على لسانه عبر الرواية وأجبت عن بعضها بين السطور وتركت أخرى بلا إجابات، فنادر ليس بطلا خارقا لديه كل الحلول، أيضا تلك فرصة كي يجيب عنها القارئ لعله يؤثر في مجتمعه إن اهتدى لإجابة صحيحة نابعة من عقله بعد القراءة. واخترت النهاية المفتوحة بالطبع لأن نادر لا يملك كل مقاليد الأمور بيده، في النهاية هو قطعة على رقعة شطرنج تنتظر دورها حتى ما قبل النهاية بقليل، فعلى وجه القطع ليس هو قطعة الملك الفائزة بالدور.
في الرواية طرحت تساؤلات مهمة ربما ألبستها حُلة جنائية لكنها تحمل دلالات إنسانية أوسع مثل الحرية وحق الاختلاف مثلا.. هل ترى أن دور الرواية طرح تساؤلات لا تقديم إجابات؟
- نعم أنا مؤمن جدا بأن الرواية هدفها طرح الأسئلة بأكثر من صيغة أيضا، وعليها أن تبحث عن إجابة لكنها لا تقولها إنما من الممكن أن تضع القارئ على طريقها، تُدله عليه من بعيد، تشير إليه نحوه ولا شيء آخر. أي روائي لا يملك الحقيقة المطلقة لكن كلهم يمتلكون المعرفة وحق التفكير، ومن ثم سيكون الحصاد السؤال. الرواية محاولة لفهم الحياة، ولا يمكن أن نفهم شيئا دون طرح كثير من الأسئلة حوله، وربما لا نصل إلى الحقيقة في النهاية أيضا.
هل شغلتك أو ترددت في نهاية الرواية التي جعلت لها طابعا قاسيا؟
- على الإطلاق أنا منذ قررت السرد كنت قد وضعت تصورا للبداية والنهاية، رأيت أحداث الرواية كاملة في عقلي، ووضعت لها تصورا على الورق ثم بدأت السرد. كان لا بد من هذه النهاية القاسية، أنا أردت توجيه لطمة لنفسي وللقارئ من بعدي، لكي نفيق من أوهام كثيرة نعيش فيها، ونتظاهر أنها غير موجودة. لو كانت النهاية لطيفة أو متفائلة لما كان للرواية أي تأثير من وجهة نظري مثلما حدث مع القراء الآن.
أنت من الأسماء الروائية المُرتبطة بانتظام الإنتاج المميز مع الحفاظ على اللون الخاص.. كيف يحقق الروائي هذه المعادلة؟
- لا أعرف إجابة محددة، فالكتابة هواية وعمل يقوم على المزاج بلا تخطيط لما سيكون عليه الأمر، لكن دعيني أحكي لك باختصار مقدمة بسيطة عني لعلها تفيد في الإجابة، أنا بدأت الكتابة عام 1999 لكني نشرت لأول مرة عام 2010 وقتها كانت لدي 4 روايات لم يقرأها غيري، ومن بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وحتى الآن كتبت 4 أخرى حصيلتي 8 روايات في عشرين عاما تقريبا، هذا منجزي ولا أهدف لعدد معين بالطبع وراضٍ عما نشرته، أنا أعمل بانتظام كأنني موظف لدى الكتابة، أكتب يوميا لعدة ساعات تصل أحيانا إلى عشر ساعات على مدار اليوم، أرتاح يوما واحدا كل أسبوع، أما موضوع اللون الخاص فأنا أظن وأحسب أن كل كاتب روائي له لونه الخاص منذ البدايات، ويعمل على تطوير أسلوبه وطريقته في البناء بعد ذلك، لكن بمجرد قراءة سطور من العمل يمكن القول هذا فلان أو فلان، أنا مثلا أعرف كتابات وحيد الطويلة أو طارق إمام أو فتحي غانم أو عمنا خيري شلبي من الصفحات الأولى. يمكنني القول إن أكثر شيء أحرص عليه في كل رواية أن أكتب في موضوع جديد، وفكرة لم أتناولها أنا أو غيري من قبل، أجرب طرق بناء مختلفة، ومع تشابه الأفكار وقلتها لا بد أن تكون طريقة التناول متفردة تماما، أظن هذا ما يخلق العالم الخاص لكل روائي، يمكن كتابة فكرة واحدة بأكثر من قلم لكن البقاء هنا سيكون للأبرع، الأكثر جاذبية، الأسلس أسلوبا، الأعذب لغة والأجمل بناءً.
نالت "بيت القبطية" أكثر من مناقشة بين القراء والنقاد.. ما أكثر التساؤلات التي لفتت نظرك سواء من التعليقات أو الانتقادات؟
- الأسئلة في هذه الرواية لا تنتهي ولا أعرف السبب بالتحديد، ربما لأنها حول موضوع شائك وواقعي، لكن أكثر سؤال سمعته على مدار 22 ندوة لهذه الرواية قبل أن يداهمنا الحظر والوباء كان عن الخوف من الكتابة والخوف عند النشر، والسؤال التالي كان عن أبطال العمل هل هم أشخاص حقيقيون رأيتهم وقابلتهم وكتبت قصتهم أم مجرد خيال. إجابتي أنني خفت بالفعل، وترددت كثيرا قبل الكتابة، لكن ما إن بدأت السرد نسيت الخوف ونحيته جانبا، والمفاجأة أن ناشري المحترم "المصرية اللبنانية" تحمس جدا لنشر العمل، وبالتالي لم أعد أفكر في خوف. وأما السؤال الثاني فالشخصيات كلها من الخيال ولم ألتقِ بأي منها من قبل، كلها تخيلتها بالكامل. والحقيقة أن الرواية حظيت بعشرات المقالات النقدية الإيجابية، لكن أكثر نقد وجه لي كان عن صغر حجم الرواية والقراء يريدون مني روايات طويلة كالمعتاد، وردي أن الفكرة تحكمني، والانتقاد السلبي كان عن عدم توافق صوت هدى مع تكوينها الثقافي والاجتماعي وأنها تحمل أفكارا أعلى من تفكيرها، وردي كان أنني رسمت شخصيتها متوافقة مع حواراتها وتفكيرها ـ معلمة لغة عربية حاصلة على شهادة جامعية وتقرأ الأدب بنهم، وتكتب الشعر والقصة، باختصار مثقفة حقيقية، ومن الطبيعي أن تكون لها رؤية وفلسفة في الحياة. أنا ضد القولبة والأنماط المتحجرة في ذهن البعض، وكأن سائق التاكسي مثلا لا بد أن يكون جاهلا. هذا تفكير سطحي من وجهة نظري، لكنني أحترم وجهات النظر على كل حال ولن أرضي كل الأذواق في القراءة، هذا أمر بديهي.
ماذا عن خطة العمل الجديد الذي تقوم بالاشتغال عليه حاليا؟
- نعم منذ شهور بدأت في فكرة جديدة احتاجت مني بحثا شاقا ومعايشة ممتعة مختلفة ومثيرة لعدة شهور سابقة أنجزتها قبل الحظر وفي بضعة شهور من العام السابق 2019 والحمد لله، أستغل الفترة الحالية في سرد الأحداث، لكنني ما زلت في المسودة الأولية، ولكن أكتب بانتظام وعزلة الفيروس أفادتني وتركيزي أفضل، الرواية هذه المرة بعيدا عن السياسة بمسافة كبيرة للغاية، وفي أجواء جديدة جذبتني بشدة وأظن لم يكتب فيها أو عنها أي روائي مصري أو عربي من قبل، ولو سارت الأمور بمعدل طبيعي في الكتابة يمكنني الانتهاء من العمل خلال عام ونصف العام من الآن، أتمنى فقط أن تعود الأمور الحياتية اليومية لطبيعتها، ونتخلص من أزمة الوباء المنتشر في العالم وفي بلدي، حتى نستطيع أن نعود لذاتنا مرة ثانية وقبل أن يداهمنا اكتئاب العزلة وهواجس الضجر والخوف من المستقبل. مع ذلك وفي المجمل أنا متفائل بأننا سنعبر الأزمة خلال بضعة شهور، لتعود الحياة من جديد مع نهاية هذا العام على أكثر تقدير.
aXA6IDE4LjE5MC4xNTMuNzcg جزيرة ام اند امز