تحقيقات مرفأ بيروت 2021.. حقيقة مغيبة في "ضاحية" حزب الله
لا تزال الحقيقة مغيبة في قضية انفجار مرفأ بيروت نتيجة ضغوط هائلة تتعرض لها التحقيقات لكشف خبايا ينشدها ذوو الضحايا واللبنانيون جميعا.
ومنذ وقوع الانفجار الذي أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وخلف آلاف الجرحى ودمارا كبيرا في أغسطس/آب 2020، انطلقت مسيرة تحقيقات لمحاولة كشف ملابسات الجريمة، ومرت بعدة مراحل.
وبعد التحقيقات الأولية، اتهم القاضي فادي صوان في 10 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، رئيس حكومة تصريف الأعمال حينها حسان دياب، و3 وزراء سابقين، بالإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وإيذاء مئات الأشخاص.
اثنان من الوزراء الثلاثة من "حركة أمل" ومن المقربين من رئيس مجلس النواب نبيه بري؛ وهما وزيرا المال السابق علي حسن خليل، ووزير الأشغال السابق غازي زعيتر، فيما اتُهم وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس المقرب من رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، بأنه صلة الوصل بينه وبين حزب الله، وحدد سريعاً مواعيد جلسات استجوابهم كمدعى عليهم.
إلا أن ادعاء صوان لم يمر، حيث واجه حملة سياسية كبيرة برفض رؤساء حكومات سابقين الادعاء على دياب، وأدرجوا الأمر في إطار الاتهام السياسي.
فيما رد مجلس النواب اللبناني طلب صوان باعتباره مخالفا للقانون، ليعلق المحقق العدلي لاحقا تحقيقاته لمدة شهرين بعدما تقدّم كل من زعيتر وخليل بمذكرة أمام النيابة العامة التمييزية طلبا فيها نقل الدعوى إلى قاض آخر، متهمين صوان بـ"خرق الدستور".
وفي 18 فبراير/شباط الماضي، كفّت محكمة التمييز الجزائية في لبنان يد المحقق العدلي القاضي فادي صوان عن التحقيقات في القضية.
وبعد يومين، عين مجلس القضاء الأعلى اللبناني القاضي طارق البيطار محققا عدليا في القضية خلفا لفادي صوان.
ومنذ استلامه الملف، أكد البيطار أنه سيعمل بهدوء على إنهائه، ووعد أهالي الضحايا بالوصول إلى الحقيقة كاملة في أقرب وقت ممكن.
رفع الحصانات
في 2 يوليو/تموز المنقضي، وجه البيطار كتاباً إلى مجلس النواب بواسطة النيابة العامة التمييزية، طلب فيه رفع الحصانة النيابية عن وزراء؛ المال السابق علي حسن خليل، ولأشغال السابق غازي زعيتر، والداخلية السابق نهاد المشنوق، تمهيداً لتوجيه الاتهام لهم وملاحقتهم.
كما وجه كتابين: الأول إلى نقابة المحامين في بيروت لإعطاء الإذن بملاحقة خليل وزعيتر كونهما محاميين، والثاني إلى نقابة المحامين في طرابلس (شمال)، لإعطاء الإذن بملاحقة وزير الأشغال السابق المحامي يوسف فنيانوس، وذلك للشروع باستجواب هؤلاء جميعاً بجناية القصد الاحتمالي لجريمة القتل وجنحة الإهمال والتقصير.
وطلب المحقق من رئاسة الحكومة إعطاء الإذن لاستجواب قائد جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا كمدعى عليه، كما طلب الإذن من وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال العميد محمد فهمي، للادعاء على المدير العام لجهاز الأمن العام اللواء عباس إبراهيم وملاحقته.
وجه القاضي البيطار كتاباً إلى النيابة العامة التمييزية بحسب الصلاحية، طلب فيه إجراء المقتضى القانوني بحق قضاة لم يعلن عن أسمائهم، كان لهم الدور في إصدار قرارات قضائية بالحجز على الباخرة التي نقلت نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، وبالحجز على كمية كانت تنقلها، وتفريغها ونقلها إلى العنبر رقم 12 بالمرفأ دون التجاوب مع طلبات إعادة إخراجها رغم التقارير التي حذرت من خطورتها.
وشملت قائمة الملاحقات قادة عسكريين وأمنيين سابقين، حيث ادّعى بيطار أيضاً على قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، ومدير المخابرات السابق في الجيش العميد كميل ضاهر، والعميد السابق في مخابرات الجيش غسان غرز الدين، إضافة إلى العميد السابق في المخابرات جودت عويدات، وحدّد المحقق العدلي مواعيد لاستجوابهم بشكل دوري.
عراقيل
وما إن سلكت كتب البيطار طريقها حتى رفعت العراقيل بوجهه، فقد رفض وزير الداخلية محمد فهمي إعطاء الإذن لملاحقة اللواء إبراهيم، فيما تخلى رئيس الحكومة عن وصايته عن مدير عام أمن الدولة ووضعها بتصرف المجلس الأعلى للدفاع في ظل توفر حماية سياسية من الرئيس اللبناني ميشال عون للضابط.
أما مجلس النواب اللبناني، فاعتمد طريق المماطلة وطلب من بيطار أدلة إضافية لرفع الحصانة عن النواب، ليعود بعدها ويطلق عريضة نيابية تطالب بسحب القضية من القضاء العادي وحصرها بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
يضاف إلى كل ذلك حملة سياسية شنها حزب الله على المحقق العدلي، حيث زعم الأمين العام للحزب حسن نصر الله أن القاضي مسيس ولا يسعى للوصول إلى الحقيقة التي لا تزال بعيدة.
عوائق لم تثن البيطار عن إكمال مهمته، فقد رفض تزويد البرلمان بمستندات وأدلة إضافية قبل اتّخاذ المجلس قرارا برفع الحصانة، إضافة إلى تكرار طلبه باستدعاء مدراء الأجهزة الأمنية، ولكن حتى اللحظة لم يتحقق أي تقدم في ظل التمسك بالحصانات.
وفي الأول من أغسطس/آب الماضي، برز تطور يكمن في كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي "إف.بي.آي"، أن كمية نيترات الأمونيوم التي انفجرت في مرفأ بيروت العام الماضي، لم تكن أكثر من 20% من إجمالي الشحنة التي تم تفريغها عام 2013.
ويقدر التقرير أن "نحو 552 طنا فقط من نيترات الأمونيوم انفجرت في ذلك اليوم وهي كمية أقل بكثير من الشحنة الأصلية التي تزن 2754 طنا، ووصلت إلى المرفأ عام 2013".
عقبات حزب الله
ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف محاولات العرقلة للتحقيق، فقد قاد حزب الله حملة على المحقق من محورين: الأول قضائي: حيث أغرقت دوائر وزارة العدل بدعاوى من قبل النواب والشخصيات المدعى عليها، تطلب كف يد البيطار عن متابعة التحقيق ما أدى إلى توقيف التحقيق لفترات طويلة، واستفادت هذه الشخصيات من الترهل والثغرات التي تصيب النظام القضائي اللبناني.
أما الثاني، فاعتمد على التهديد السياسي، حيث بدأت القضية في 21 سبتمبر/أيلول الماضي عندما سرّبت رسالة تهديد من مسؤول جهاز الأمن والارتباط في "حزب الله" وفيق صفا للقاضي البيطار، وفيها أنهم سيسيرون بالمسار القانوني لإزاحة البيطار وإذا لم ينجحوا فسيعمدون إلى "وسائل أخرى".
وعندما لم يتجاوب القضاء اللبناني مع الدعاوى المرفوعة بوجه المحقق، عمد "حزب الله" إلى زيادة الضغط السياسي عبر عدد من إطلالات أمينه العام حسن نصرالله وتوجيه التهديد المبطن للقاضي، متوعدا بأنه "سيخرب البلد" إذا استمر بطريقة تحقيقاته.
وفي 12 أكتوبر/ تشرين الأول المنقضي، وخلال جلسة للحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، طالب وزراء "حزب الله" و حركة "أمل" الحكومة باتخاذ قرار بتغيير المحقق العدلي في القضية، وهددوا بالدم في حال لم تتجاوب الحكومة.
إلا أن رئيسي الجمهورية والحكومة رفضا التجاوب مع طلبات الوزراء، واعتبروا أن هذا الأمر خارج مسؤولية الحكومة، خصوصا أن في لبنان هناك فصل للسلطات ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تتدخل في عمل السلطة القضائية ما أدى إلى تعليق وزراء "حزب الله" وحليفته مشاركتهم في اجتماعات الحكومة وبالتالي تعطيل انعقاد جلساتها التي لا تزال معطلة حتى اليوم، نتيجة عدم تجاوب المليشيات مع أي مبادرة قام بها الفرقاء ما لم تشمل تغيير القاضي.
وفي 15 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نفذ "حزب الله" وحليفته "حركة أمل" تظاهرة أمام قصر العدل في منطقة المتحف في بيروت، انحرف بعض المشاركين فيها نحو منطقة محاذية من وزارة العدل (عين الرمانة)، ووقعت اشتباكات بينهم وبين شبان من المنطقة تحولت بعد دقائق إلى معركة حقيقية أدت لسقوط 7 ضحايا. واستغل "حزب الله" هذه الحادثة الذي تسبب فيها ليحمل القاضي مسؤولية الدم الذي وقع.
مذكرات توقيف
في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، أصدر البيطار مذكرة توقيف غيابية بحق وزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فنيانوس، بعد امتناعه عن المثول أمامه لاستجوابه.
وفي 20 من الشهر نفسه، أصدر المحقق العدلي مذكرة إحضار بحق رئيس الحكومة السابق حسان دياب، لكن القوى الأمنية رفضت تنفيذها.
وفي 12 أكتوبر/ تشرين الأول المنقضي، أصدر البيطار مذكّرة توقيف بحقّ الوزير السابق علي حسن خليل، وذلك عقب امتناع الأخير ووكيله القانوني عن حضور جلسة الاستجواب التي حددها المحقق العدلي.
كما جرى توقيف 25 شخصاً على صلة بالقضية بينهم مدير عام الجمارك اللبنانية الحالي بدري ضاهر والسابق شفيق مرعي، إضافة إلى مدير عام مرفأ بيروت وضباط في الجمارك.
تقدم وانتظار
المحلل السياسي اللبناني والصحفي المتخصص بالشأن القضائي يوسف دياب، يرى أن التحقيقات أصبحت في مرحلة متقدمة جداً.
ونقل دياب عن مصادر مقربة من القاضي البيطار قولها إن الأخير "اجتاز نحو 75 بالمئة من مرحلة التحقيق ولو سهلت له عمليات استجواب النواب والقادة الأمنيين المدعى عليهم، لكان شارف على الانتهاء من التحقيق أقله بشقه الداخلي".
وأضاف دياب، في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن "ما حسمه حتى الآن المحقق العدلي هو موضوع التقصير والإهمال من الجانب اللبناني، والأشخاص الذين كانوا على علم بموضوع النيترات وكيف نزلت إلى مرفأ بيروت ومن تقاعس عن إزالتها؟".
وتابع: "يبقى هناك الشق الخارجي المتعلق بالتحقيقات، والقاضي ينتظر الإجابة على إنابات قضائية أرسلها إلى الخارج تتعلق بأشخاص يقال إنهم يديرون الشركات التي اشترت النيترات، والشركات الوهمية التي دخلت على الخط في هذه الصفقة، ودور رجال الأعمال الذين يملكون شركات وهمية مسجلة في المملكة المتحدة".
واستدرك دياب بالقول إن للقاضي أجوبة مهمة جداً بخصوص هذا الموضوع، لكنه لا يزال ينتظر إجابات من الخارج.
ووفق الخبير، فإن العديد من الدول لم تزود التحقيق بعد بصور للأقمار الاصطناعية من أجل استبعاد أو حسم مسألة استهداف المرفأ بصاروخ أو طائرة حربية".
أما عن دور "حزب الله" في قضية النيترات، فاعتبر أن "بقاء مواد لمدة 7 سنوات في المرفأ رغم معرفة جميع السياسيين والإداريين والأجهزة الأمنية والقضاة بخطورتها ولم يحرك أحد ساكناً، يعني أن هناك قوة أكبر من الدولة منعت إزالتها".
aXA6IDMuMTM3LjE2Mi4yMSA= جزيرة ام اند امز