قيادة بلا هيمنة.. مبدأ بايدن للسياسة الخارجية
جو بايدن قام بتحويل أساس السياسة الخارجية الأمريكية من الاعتماد غير الصحي على التدخل العسكري للسعي النشط للدبلوماسية المدعومة بالقوة.
لا يزال الوقت مبكرا للحكم على رئاسة جو بايدن للولايات المتحدة التي استمرت لفترة واحدة.
وما بين الإنجازات الملحوظة والأخطاء الاستراتيجية -أيضا- لإدارته على مدار السنوات الأربع الماضية، نفذ الرئيس الديمقراطي مهمة حاسمة وهي تحويل أساس السياسة الخارجية الأمريكية من الاعتماد غير الصحي على التدخل العسكري إلى السعي النشط للدبلوماسية المدعومة بالقوة.
سجل
استعاد بايدن ثقة الأصدقاء والحلفاء، وبدأ في إضفاء الطابع المؤسسي على الوجود الأمريكي العميق في آسيا.
كما استعاد دور واشنطن في المنظمات والاتفاقيات المتعددة الأطراف، وأنهى أطول الحروب وهي الخطوة التي لم يمتلك أي من أسلافه الشجاعة لاتخاذها، وفقا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية.
وقالت المجلة في تحليل لها، إن خطوات بايدن جاءت بمواجهة تهديدات جديدة خطيرة من الصين وروسيا، القوتين العظميين المتحالفتين بهدف إنهاء التفوق الأمريكي.
وفي 2022، كانت استجابة بايدن لحرب أوكرانيا ماهرة ومبتكرة، وتعكس فهم العناصر التقليدية لحكم الدولة إلى جانب الاستعداد لاتخاذ بضع خطوات غير تقليدية.
وبالنسبة للصين التي تعد التحدي الأكثر تعقيدا أمام السياسة الخارجية الأمريكية، فإن نهج بايدن جاء في بعض الأحيان مخيبا للآمال وامتدادا لنهج سلفه دونالد ترامب، وعزز عدم اليقين بشأن تايوان، إلا أنه في الوقت نفسه عقد تحالفات جديدة واستعاد تحالفات أخرى في آسيا.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، كانت جرأة بايدن التي أظهرها في الانسحاب من أفغانستان غائبة عن رد فعله على حرب غزة، فلم يمارس المزيد من الضغوط على قادة إسرائيل لتبني نهج أكثر حكمة وأقل تدميرا، وفقا لـ"فورين أفيرز".
وقت قصير
تعد فترة 4 سنوات وقت قصير جدا لتأسيس عقيدة أو مبدأ للسياسة الخارجية، فالكثير مما حققه بايدن قد يقوم خلفه بمحوه.
ومع ذلك، فإن إرث الرئيس الديمقراطي يشير إلى ملامح نهج جديد مناسب تماما لعالم اليوم مثل العزم على تجنب الحروب لإعادة تشكيل بلدان أخرى واستعادة الدبلوماسية كأداة مركزية للسياسة الخارجية.
لكن هذا النهج لم يكن خاليا من العيوب فهو لم يعزز استراتيجية اقتصادية عالمية متماسكة، كما افتقر إلى التزام قوي بمنع الانتشار والحد من التسلح.
لكنه قدم للعالم دولة تركت وراءها غطرسة "الأحادية القطبية" التي أعقبت الحرب الباردة، فأصبح من الممكن أن تشارك الولايات المتحدة في السياسات العالمية دون عمل عسكري أو وصمة الهيمنة.
وعند توليه منصبه، كانت المهمة الأكثر أهمية لبايدن هي استعادة الثقة في الخارج حيث كان شعار حملته "أمريكا عادت" لكن بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض، بدا أنه يدرك أن قوة بلاده لم تعد كما كانت.
وركزت إدارة بايدن على إقناع الحلفاء بعدم القلق بشأن سياسات ترامب "أمريكا أولا"، والاستهزاء العلني بحلف شمال الأطلسي، وازدراء التعاون المتعدد الأطراف في قضايا تتراوح من تغير المناخ إلى جائحة كوفيد-19.
لم يكن الأمر سهلا، فالجميع أدرك احتمال عودة ترامب أو زعيم يشبهه في الانتخابات القادمة، لكن بايدن حاول التركيز على التحول في السياسات منذ اليوم الأول له في المنصب.
فأعاد الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، وأكد التزام واشنطن بالعديد من الاتفاقيات والهيئات الاقتصادية والأمنية، وخاصة حلف الناتو.
شبكة روابط
ركزت إدارة بايدن جهودها الدبلوماسية على بناء ما أسمته "شبكة" الروابط العميقة والجديدة عبر آسيا والتي تمتد إلى المصالح الجيوسياسية والاقتصادية بهدف مواجهة الصين.
فتم رفع شراكة الحوار الأمني الرباعي التي تربط أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة من منتدى لوزراء الخارجية إلى منتدى لرؤساء الدول.
وجرى تشكيل تحالف "أوكوس" الأمني الذي يربط أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وللمرة الأولى، عُقدت قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا في واشنطن وسمحت الاتفاقيات الثنائية الجديدة بتوسيع نطاق الوصول العسكري الأمريكي في أستراليا واليابان وبابوا غينيا الجديدة والفلبين.
كما عمل بايدن على تعميق العلاقات الأمريكية مع الهند وإندونيسيا وفيتنام.
ولتحديد مسار جديد للولايات المتحدة، رأى بايدن ضرورة إنهاء الحرب الطويلة والأبدية في أفغانستان بعدما أنفقت واشنطن على مدار 20 عاما من القتال ما يزيد عن 2 تريليون دولار أي ما يعادل 300 مليون دولار يوميًا.
ومع تولي بايدن منصبه، أظهرت الاستخبارات الأمريكية أن سيطرة طالبان على مناطق في أفغانستان كانت تتزايد رغم هذا الاستثمار الهائل.
وفي خطابه في أغسطس/آب 2021، قال بايدن "لدينا مصلحة واحدة فقط هي التأكد من عدم إمكانية استخدام أفغانستان مرة أخرى لشن هجوم على وطننا"، مشيرا إلى أن واشنطن حققت هذا الهدف بهزيمة تنظيم القاعدة وقتل أسامة بن لادن في 2011.
لكن الانهيار السريع غير المتوقع للجيش الأفغاني والحكومة الوطنية، وعودة طالبان للسلطة مجددا، والفوضى في كابول ومحاولة آلاف الأفغان الفرار، ومقتل 13 من أفراد الخدمة الأمريكية وأكثر من 160 مدنيا أفغانيا في تفجير انتحاري قرب المطار، كل ذلك دفع خبراء السياسة الخارجية إلى انتقاد قرار الانسحاب.
لكن الحقيقة أن أمريكا خسرت حرب أفغانستان قبل فترة طويلة من الانسحاب مع سقوط 2461 قتيلاً و20744 جريحاً أمريكيا في السنوات التي سبقت 2021.
كما أن بايدن أشار إلى أن الصين وروسيا تفضلان تورط واشنطن لعقد آخر في أفغانستان.
أوكرانيا والصين
بخصوص حرب أوكرانيا، كان تعامل بايدن ماهرًا، فقبل اندلاع الحرب كسر التقاليد وكشف علنا عن معلومات استخباراتية بشأن تحركات موسكو لتنبيه العالم إلى خططها وفقا لـ"فورين أفيرز" التي قالت إن دفاع الرئيس الأمريكي عن كييف اقترن بحظر قاطع لمشاركة قوات بلاده في الحرب.
وبعدها، حشد بايدن الدول الأوروبية والناتو والكونغرس لدعم كييف وأمر بتدفق حذر في البداية ولكنه متزايد بثبات من الأسلحة والأموال.
وفيما تطلب سلوك الصين استجابة أمريكية قوية، سارت إدارة بايدن بحكمة على خط رفيع من خلال تعزيز علاقاتها مع الحلفاء والشركاء الآسيويين وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي مع الاستغناء عن التهويل والاستفزاز غير الضروري.
لكن الاستثناء المؤسف هو التعامل مع تايوان حيث زاد بايدن عدة مرات من حالة عدم اليقين مما تطلب إصدار توضيحات من البيت الأبيض.
وكان الأمر الأكثر خطورة هو موافقته غير المسؤولة على الزيارة الرسمية لرئيسة مجلس النواب آنذاك نانسي بيلوسي إلى تايوان في 2022 والتي أشعلت موجة غير مسبوقة من الانتقام العسكري والسيبراني من قبل بكين وتصعيد آخر للتوترات عبر المضيق.
الشرق الأوسط
بالنسبة للشرق الأوسط، قرر بايدن عدم تشتيت الأولويات بسبب الصراع الدائم في المنطقة وورث سياسة ترامب التي أظهرت نجاحا بعد الاتفاقيات الإبراهيمية للسلام.
وبعد هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رد بايدن بدعم شخصي غير مسبوق يعكس شغفه بإسرائيل، لكن مع تطور العمليات العسكرية الإسرائيلية بدا أن الرئيس غير قادر على رؤية ما يحدث على الأرض.
وحاولت واشنطن التوسط في وقف إطلاق نار دائم، وظل بايدن غير راغب في استخدام النفوذ الأمريكي لإجبار إسرائيل على خفض المستوى المذهل للوفيات والمعاناة بين المدنيين في غزة، وصياغة خطة واقعية على المدى الطويل.
ومن سلبيات سجل بايدن أيضا التوسع في سياسة الحماية التجارية لترامب، حيث أن التعريفات الجمركية سياسة اقتصادية سيئة فهي رجعية وتضخمية وتدعو إلى الانتقام وتشير إلى أن عصر العولمة والتجارة الحرة قد يكون انتهى تماما إذا حذت دول أخرى حذو واشنطن ستصبح جميع الدول أكثر فقرا.
كما غابت جهود تعزيز السيطرة على الأسلحة النووية ومنع الانتشار عن دبلوماسية لبايدن مع فشل محاولات إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي انسحب منه ترامب في 2018.
كما وضع بايدن جانبًا اعتبارات منع الانتشار في اتفاق أوكوس الذي يتضمن نقل الوقود عالي التخصيب لتشغيل الغواصات إلى استراليا وهي دولة لا تملك أسلحة نووية.
وبشأن الحد من التسلح، فشلت إدارة بايدن أيضا مع تكرار روسيا لتهديداتها باستخدام الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا وأيضا خطط الصين لمضاعفة عدد الأسلحة النووية في ترسانتها إلى 1000 بحلول عام 2030، ولم تبذل إدارة بايدن لم تبذل أي جهد كبير لعكس هذا الاتجاه.
وأخيرا فإن بايدن خلال ولايته أجرى تغييرات عميقة في السياسة الخارجية ليس بهدف استيعاب الانحدار الأمريكي ولكن عكس القوة المتأصلة في البلاد.