فيلم "US".. رعب لا يثير الخوف بقدر ما يحفز العقل
جوردان بيل صنع مع "US" فيلم رعب لا يثير الخوف بقدر ما يحفز العقل للتفكير.. وهنا يكمن المعنى البليغ للسينما
يعلمنا المخرج جوردان بيل في فليمه "US" أنه من الممكن الجمع بين الرعب والضحك والعمق الفكري في الوقت ذاته دون أن تكون مبتذلاً، وأن أعمق الأفكار لا يحتاج لكلام كبير وإنما لأسلوب ذكي لإيصالها إلى المتلقي، وبالتالي تستطيع كمشاهد أن تجد ما يضحكك في "US" إن كان هذا ما تريده.
وإن كنت تبحث عن وجبة رعب "أنيقة" فيمكن أن تجدها في الفيلم أيضاً، أما إن كنت بحاجة لفيلم يحاور عقلك لا غرائزك، ويجيب عن أسئلة عميقة تتردد في داخلك، فستجد بالتأكيد ما تبحث عنه في "US".
عندما كانت "أديلايد" طفلة تعرضت لصدمة أثناء دخولها أحد بيوت الرعب التي تتوافر عادة في دور الملاهي والألعاب، وهناك تتفاجأ في غرفة للمرايا بفتاة تشبهها، وترتعب حين تكتشف أن ما تراه ليس انعكاساً لصورتها في المرآة، الأمر الذي يفقدها صوتها.
عند هذا الحد تتوقف الحكاية عن السرد، وتنتقل بالزمن قفزة كبيرة لنجد أن "أديلايد" قد كبرت واستعادت صوتها، ولكن من دون أن تذهب عنها آثار تلك الصدمة، وهو ما ستظهر آثاره وهي تقاوم ضغوطا لزوجها "غابي" وطفليها "زورا" و"جيسون" لزيارة بيت العائلة على شاطئ "سانتا كروز" حيث تعرضت للصدمة في طفولتها.
ومع استجابة "أديلايد" للضغوط تنتقل العائلة إلى هناك لتقضي إجازتها السنوية بسعادة، قبل أن يطرق أربعة غرباء متشابكي الأيدي بيت العائلة ليلاً، وهم يرتدون بذلات حمراء ويحملون مقصات، وسرعان ما نكتشف أن هؤلاء الغرباء هم نسخة كربونية عن أفراد العائلة، ولكن تظهر عليهم ملامح التوحش والغضب، ولا يستطيعون التكلم باستثناء السيدة بينهم التي تشبه "أديلايد"، والتي تخبر هذه الأخيرة أنهم يريدون قتل أفراد عائلتها وأخذ مكانهم.
سرعان ما تتمكن عائلة "أديلايد" من الإفلات من قبضة الغازين، ويلجؤون إلى عائلة أصدقائهم "كيتي وجوش تايلر" لنكتشف أنهم أيضاً تعرضوا لغزو مشابه من قبل نسخ كربونية عنهم، ضمن على ما يبدو غزوة جماعية من قبل النسخ الكربونية ضد من يشبهونهم من سكان المدينة بالكامل.
ومع تصاعد الحدث تأخذنا حوارات الفيلم ووقائعه إلى مستوى أعلى وأعمق من الطرح، فما بدا رعباً كان مدخلاً مثيراً للتفكير تثيره فرضية الفيلم من أن المهاجِمين هم النسخة المطابقة الشريرة للمهاجَمين، والتي تشكل فهماً أولياً لما بين سطور حكاية الفيلم، وفك رموز عتبته الأولى، أي اسم الفيلم؛ "نحن".
التشابه مع النقيض، مجرد عتبة أولى للنص الذي يبدو أعمق بكثير، ويستند في عمقه إلى حرفية " جوردان بيل" في كتابة نصه الذي لا يقول كل ما عنده دفعة واحدة، وإنما هو يمرحل أفكاره وبالتالي يمرحل في بث أفكاره ورسائله، إذ يقدم للمشاهد فكرة ويكرسها في عقله حتى يستوعبها هذا الأخير ويشرّحها ويصدر أحكامه عليها، قبل أن يعود ليفاجئه بدفق جديد من الأحداث التي تأخذه بدورها إلى مطارح جديدة من الحكاية، وتلهمه بأفكار وقراءات أعمق مما بلغه من قبل.
وها هو بعد أن استسلمنا لصيرورة حكاية "أديلايد" بعد أن كبرت، يعود ليعلمنا ما انقطع من حكايتها وهي صغيرة، إذ نكتشف أن الطفلة الحقيقة تم أسرها في غرفة المرايا، ومن عاد إلى العائلة هو شبيهتها النقيضة، وهذه الأخيرة هي من نشأت في كنفهم وكبرت وتزوجت غابي وأنجبت زورا وجيسون، وهذا ما يفسر أن من بين الغازين الحمر لا يوجد أحد يتكلم سوى شبيهة "أديلايد" التي هي في الواقع "أديلايد" نفسها لا الشبيهة، كما يفسر ذلك عن سبب محاكاة الغازين في تشابك أيديهم لحملة "Hands Across America" التي وقعت بهدف إثارة الانتباه إلى الجوعى والمحرومين في العام نفسه الذي اسرت فيه "أديلايد"، كانت بحسب الفيلم، آخر ما عرفته الطفلة قبل أن يتم استبدالها بالطفلة الشبيهة.
في كل تلك التفاصيل تكمن المتعة الحقيقة للفيلم، إنه حوار أفكار مخلوط بالمتعة، لا يمارس على المشاهد التنظير ولا ينسى مهمته الأولى في الترفيه، ولكنه يبقيه في حالة تحفيز دائماً بأن هناك شيئا لم يقله بعد، وعلى المشاهد التقاطه.
وباستثناء الحوار الصريح الذي يصير بين "أديلايد" وشبيهتها في بداية غزو بيت العائلة ليلاً، والذي يرد فيه إشارة واضحة إلى أن الغزاة الحمر هم أمريكيون أيضاً، لا يقدم جوردان بيل تفسيراً لأحداث فيلمه ورموزها الموزعة في النص بكثرة، وإنما يحترم عقل مشاهده، فيترك له الحرية في تفسير ما يراه، الأمر الذي يجعل الفيلم أمام سلسلة طويلة محتملة من الرسائل والأفكار المتعلقة بأحداثه، هي صحيحة بمنطق أصحابها والسياق العام الذي يتلقون الفيلم من خلاله.
الفكرة الرئيسية للنص جعلت منه ميداناً حقيقياً لاستعراض المهارات التمثيلية لأبطاله، إذ كان على كل واحد منهم أن يقدم الشخصية ونقضيها، في المظهر والسلوك ولغة الجسد، في آن واحد، وإن كنا ننظر بكثير من التقدير إلى براعة الجميع، لكننا لا بد أن نتوقف طويلاً أمام ورهافة الحس والأداء المتميز للفنانة لوبيتا نيونغو، وعبقرية الفنان وينستون ديوك في تجسيد شخصية "غابي" وشبيهه.
ويبقى التقدير الحقيقي في الفيلم لمخرجه وكاتبه جوردان بيل الذي صنع، بميزانية متواضعة، فيلم الرعب الثاني في تاريخ تجربته الفنية والعاشر بين أفلامه الطويلة والقصيرة، وذلك بحرفية وشغف من يبدأ أولى خطواته الفنية، وبالتالي استطاع أن يتقدم خطوة واثقة على صعيد المستوى الفني عما قدمه في فيلم الرعب الأول " Get Out"، وتجاوز نجاح هذا الأخير بالبحث عن مطارح فكرية جديدة ترتدي ثوب الرعب في فيلمه الجديد.
باختصار لقد صنع جوردان بيل مع "US " فيلم رعب لا يثير الخوف بقدر ما يحفز العقل للتفكير.. وهنا يكمن المعنى البليغ للسينما.