يتوقع الاقتصاديون أن ينضم نحو مليون وثلاثمئة ألف بريطاني إلى قائمة "المحرومين"، إثر ارتفاع كلفة المعيشة في البلاد، وفشل وزارة الخزانة في دعم الفقراء لتحمل زيادة الأسعار والضرائب.
فشلُ المالية البريطانية، الذي فضحه ما يسمى بـ"خطاب الربيع" حول الميزانية السنوية المقبلة للبلاد، تتحمله الحكومة بأكملها، فثمة انقسام داخل الحكومة البريطانية حول نجاعة حلول وزير الخزانة لاحتواء الغلاء، الذي بدأ ينتشر في البلاد منذ أشهر، وسيتحول إلى أزمة، أو "وباء"، كما باتت تصفه وسائل الإعلام.
تكلفة المعيشة ارتفعت على الناس في كل جوانب حياتهم، سواء في السلع التي يشترونها، أو الخدمات التي يحصلون عليها من الحكومة.. حتى الضرائب والتأمين والرعاية الطبية والاجتماعية زادت فواتيرها، فيما تضاءل الدعم الحكومي كثيرا.
الأرقام تتحدث عن نفسها، وكل سلعة، كبيرة كانت أو صغيرة، استراتيجية كانت أو كمالية، ازداد سعرها.
تتفاوت النسب، ولكنها تتراكم في النهاية للتحول إلى كارثة بالنسبة لمحدودي الدخل.
كلمة السر هنا هي الطاقة، حيث شهدت فواتير الكهرباء والغاز ارتفاعا بنسبة 54٪ مع صباح اليوم الأول من شهر أبريل الجاري، وهو ما يقدر بنحو 700 جنيه إسترليني سنويا في الحد الأدنى، كما يتوقع ارتفاع الأسعار ثانية خلال ستة أشهر.
المفارقة الأولى هي أن هذه الزيادة في الأسعار لا تأتي متأثرة بالأزمة الأوكرانية، أي إنها لا تعكس التداعيات التي يخشاها وزير المالية على الاقتصاد البريطاني بسبب الحرب. فحكومة المحافظين تتوقع خسارة بنحو 70 مليار جنيه إسترليني إذا ما تخلى الاتحاد الأوروبي عن النفط والغاز الروسيين دعما لكييف.. ذلك لأن ارتفاع كلفة الطاقة في القارة العجوز سيؤدي إلى ارتفاع أسعار أكثر من 45% من واردات المملكة المتحدة.
المفارقة الثانية هي أن البريطانيين كانوا ينتظرون "رخاء اقتصاديا" بعد "استقلال" بلادهم عن الاتحاد الأوروبي. ورئيس الوزراء بوريس جونسون كان من أبرز المبشرين بذلك "الرخاء" عندما كان يقود حملة الخروج من التكتل. "جونسون" اليوم لا يستطيع جمع أفراد حكومته حول آلية موحدة لمواجهة ارتفاع كلفة المعيشة، ولكنه يصر على أن البلاد لا تزال تخوض مرحلة انتقالية بعد "بريكست" سوف تنتهي بـ"خاتمة سعيدة".
هناك من يؤيد هذا الرأي من الاقتصاديين. فرئيس اتحاد الصناعة يقول إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يتيح فرصًا للإبقاء على الضرائب والاقتراض إذا تم تسخيرها بشكل صحيح، ولكن يبدو أن المحافظين لا يريدون الاقتراض ويفضلون تحمل الناس الضغوط إلى حين خلق استثمارات تزيد معدلات النمو في البلاد.
والسؤال الرئيسي هنا هو: هل تبعث الظروف الدولية على التفاؤل بحدوث مثل هذا السيناريو قريبا؟
المشكلة في الانتظار هنا لا تكمن في زيادة معدلات الفقر فقط، وإنما في اتساع رقعة الموت المرافق له.
فأرقام مكتب الإحصاء الوطني الصادرة حديثا تقول إن "أربعة من كل عشرة وفيات بين الذكور الفقراء في المملكة المتحدة كان يمكن أن لا يموتوا لو أن ظروف العيش كانت مختلفة، ومعايير الحياة كانت أفضل".
هذه النسبة تقل بين النساء إلى نحو "وفاتين بين كل عشر وَفَيات".
أما الأطفال فتقول الدراسة المتخصصة إن الفقر "يرتبط بانخفاض الوزن عند الولادة وقصر العمر المتوقع وزيادة مخاطر الوفاة في السنة الأولى من العمر".
ناهيك بزيادة مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة، وكذلك المشكلات المتعلقة بالنظام الغذائي، كما تزداد احتمالية حدوث مشكلات في الصحة العقلية ثلاث مرات.
المعادلة بسيطة وواضحة كما تسردها الإحصائيات، فكلما ارتفع عدد الفقراء، زاد احتمال أن يصبحوا بلا مأوى على المدى القصير.
في فبراير الماضي توقعت دراسة مختصة أن يصبح أكثر من ستة وستين ألف شخص في بريطانيا بلا مأوى بحلول 2024.. وبحسب المركز المتخصص في رصد واقع المشردين في المملكة المتحدة، فقد توفي عام 2021 نحو ألف وثلاثمائة شخص من أصل أكثر من مائتين وسبعين ألف مشرد في جميع مناطق الدولة، بزيادة قدرها 32٪ عن عام 2020 و80٪ عن 2019.
أحد التقارير المختصة في صحيفة الجارديان عنون اقتباسا من أناس التقاهم للسؤال حول واقع الحال في البلاد، بأن القادم من الأيام "سيحمل أسوأ مما عرفته المملكة المتحدة خلال عهد مارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء بين 1979 و1990". "تاتشر" أيضا تنتمي إلى حزب المحافظين، وقد مرّ الاقتصاد تحت إدارتها بأزمات كبيرة بسبب قوانين وإجراءات تبنّتها لدعم اقتصاد السوق على حساب النقابات وحقوق العمال.
ما قامت به "المرأة الحديدية" استدعى تظاهرات واحتجاجات كبيرة في البلاد ضدها، ولكن نفوذها لم يتأثر.
هناك من يعتقد أن الاقتصاد البريطاني تحسن بفضل ما قامت به "تاتشر" حينها، وهناك من يرى العكس تماماً. لكن المؤكد أن "المحافظين" منذ عام 1979 حتى اليوم أثروا في اقتصاد المملكة المتحدة بشكل كبير جدا ويفوق حزب العمال بمراحل. فالمحافظون تولوا السلطة أكثر من ثلاثين عاما من أصل اثنين وأربعين.
هناك دعوات للتظاهر ضد غلاء المعيشة في بريطانيا اليوم.. ولكن تقدير تأثيرها لا يزال صعبا.. تماما كما تصعب أيضا قراءة تداعيات ارتفاع الأسعار خلال الأشهر القليلة المقبلة.
لن يفيد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، تجاهل الأمر، ولا يبدو أنه قادر على مواجهة موجات من الغضب الشعبي كما فعلت "تاتشر".. هو متورط في أزمات عدة، وما تعيشه حكومته اليوم داخليا وخارجيا قد يعيق قدرته على الصمود.. "تاتشر" كانت تقول إن المرء قد يضطر لخوض معركة ما أكثر من مرة كي ينتصر، ولكن "جونسون" يقاتل على جبهات عدة في السياسة والاقتصاد، وربما أشد معاركه لم تشتعل بعد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة