رسوم «ترامب» وقانون «سموت-هاولي».. هل يعيد التاريخ شبح الكساد الكبير؟

في ظل مشهد اقتصادي عالمي تسوده التوترات وتسيطر عليه الضبابية، تتزايد المخاوف من تكرار سيناريو ثلاثينيات القرن الماضي، حينما اتخذت الولايات المتحدة قرارات حمائية أثارت اضطرابات تجارية عالمية، ودفعت الاقتصاد الدولي نحو هاوية الكساد.
يعود الحديث مجددًا عن سياسات الحماية الجمركية، بعدما فرضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سلسلة من الرسوم الجمركية على واردات دول حليفة وعدوة، ما أثار تساؤلات حول ما إذا كان العالم على مشارف تكرار الكارثة الاقتصادية التي ضربت البشرية قبل أكثر من تسعين عامًا.
شبح قانون "سموت-هاولي"
تعد تجربة "قانون سموت-هاولي" الجمركي من أبرز الدروس التي تعكس مخاطر السياسات الحمائية، ففي عام 1930، وقع الرئيس الأمريكي هربرت هوفر هذا القانون، الذي أدى إلى رفع الرسوم الجمركية على أكثر من 20 ألف سلعة مستوردة إلى مستويات غير مسبوقة.
وبلغت تلك الرسوم ما يقارب 60% عام 1932، بعد أن كانت في حدود 40% عام 1929، ما أدى إلى انهيار نظام التجارة العالمي، ودفع دولًا عدة إلى الرد بالمثل، لينشأ ما يشبه "حربًا تجارية عالمية" ساهمت في تفاقم الكساد الكبير.
في ذلك الحين، سادت حالة من التفاؤل المضلل في بعض العواصم، ومنها أوتاوا، حيث اعتبر الساسة الكنديون أن تهديدات الرئيس الأمريكي مجرد تصريحات انتخابية، لكن التوقيع الفعلي على القانون حطم هذه التوقعات، وتسبب في تدهور العلاقات الاقتصادية بين كندا والولايات المتحدة.
تكرار أخطاء الماضي
وفي مشهد معاصر يعكس تكرارًا للأحداث التاريخية، اتخذ الرئيس ترامب قرارات مشابهة حين فرض رسومًا جمركية على واردات من كندا والمكسيك والصين.
وفي الرابع من مارس/آذار، بدأت واشنطن تطبيق رسوم بنسبة 25% على واردات من كندا والمكسيك، مع إعفاء لاحق لشركات صناعة السيارات، كما فُرضت رسوم إضافية بنسبة 10% على الواردات الصينية، ما فجر حالة من الغضب الدولي، لاسيما في ظل غياب مبررات اقتصادية واضحة لهذه الإجراءات.
على الرغم من أن الحرب التجارية التي أطلقها ترامب لم تحظ بشعبية كبيرة داخل الولايات المتحدة، فإنها عكست اتجاهًا نحو الانكفاء الاقتصادي، ووضعت الحلفاء في موقف دفاعي، بل واستفزت خصوم أمريكا نحو الرد بالمثل أو البحث عن شركاء تجاريين بديلين.
الكساد الكبير
الكساد الكبير، الذي اجتاح الولايات المتحدة والعالم في ثلاثينيات القرن العشرين، لم يكن نتاج الرسوم الجمركية فقط، بل ساهمت فيه عدة عوامل أخرى، أبرزها السياسة النقدية المتشددة للاحتياطي الفيدرالي، الذي فشل في إنقاذ البنوك من الانهيار، ما أدى إلى انكماش المعروض النقدي، وفاقم تأثير الرسوم الجمركية.
وكانت هذه الرسوم، التي فرضت غالبًا بوحدة "السنت لكل وزن"، تعني فعليًا ارتفاعًا أكبر كلما تراجعت الأسعار العالمية، ما تسبب في ارتفاع غير مباشر في تكلفة الاستيراد، ودفع إلى مزيد من الانكماش الاقتصادي، فضلًا عن أنها عمقت الانقسام بين الدول الغربية، وأدت إلى تشكيل كتل تجارية متنافسة.
ردود الفعل الدولية
السياسات الأمريكية في ثلاثينيات القرن الماضي أثارت موجة من الغضب لدى حلفائها، حيث اعتبرت هذه الدول أن الولايات المتحدة تتخلى عن التزاماتها الأخلاقية والاقتصادية.
ولجأت بعض الدول إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية أو اللجوء إلى تقنيات بديلة للرد، مثل فرض حصص على واردات السيارات الأمريكية، أو شن حملات شعبية لمقاطعة السلع القادمة من واشنطن.
وفي كوبا، التي كانت تعتمد بشكل كبير على صادرات السكر إلى السوق الأمريكية، تسببت السياسات الحمائية في ركود اقتصادي عميق، تسبب في ثورة عام 1933، تلتها حكومة قصيرة الأجل أطاح بها انقلاب مدعوم أمريكيًا، لتدخل العلاقات بين البلدين في نفق مظلم امتد لعقود.
أما كندا، فقد شهدت انتخابات مبكرة بعد أن ردت الحكومة الليبرالية على الرسوم الأمريكية بزيادة تعريفاتها الجمركية على المنتجات الأساسية مثل القمح والبيض، وأسفرت الانتخابات عن فوز المحافظين، الذين كانوا ينظر إليهم آنذاك كأكثر عداءً لأمريكا، ومؤيدين للنهج الحمائي.
هل التاريخ يعيد نفسه؟
في ظل إدارة ترامب، عادت ظلال تلك الفترة إلى المشهد السياسي والاقتصادي، فقد استفاد الليبراليون في كندا من معارضتهم لسياسات ترامب، وارتفعت شعبيتهم، ما مهد الطريق لانتخابات مبكرة كان يتوقع أن يحققوا فيها مكاسب.
لكن الأمور لم تتوقف عند فرض الرسوم فقط، فقد لجأت بعض الدول إلى سياسات انتقامية أكثر تطورًا، عبر فرض قيود غير جمركية، أو من خلال إجراءات توحي بالاحتجاج الشعبي.
وفي إيطاليا، دعا نادي السيارات الملكي، المستهلكين إلى مقاطعة السيارات الأمريكية، معتبرًا شراءها سلوكًا غير وطني، الأمر الذي يتعرض له رجل الأعمال إيلون ماسك، مالك "تسلا"، الذي يعتبر حليفًا مقربًا لترامب، حيث واجهت علامته التجارية في بعض الدول حملات دعائية معادية.
السياسة النقدية والرسوم الجمركية
في ثلاثينيات القرن الماضي، أدى تمسك العالم بمعيار الذهب إلى تقلبات كبيرة في أسعار الصرف، وعمّق الانكماش الاقتصادي، واليوم، يلعب الدولار دورًا مشابهًا، إذ يُستخدم في معظم المعاملات التجارية العالمية، لكن يتساءل مراقبون عما إذا كان سيظل يحتفظ بهذه المكانة في ظل تعددية متزايدة في الاقتصاد العالمي.
ومع تزايد النفوذ الصيني، وصعود عملات رقمية صادرة عن بنوك مركزية، قد تواجه الولايات المتحدة تحديات حقيقية في الحفاظ على دورها كمقرض أخير للاقتصاد العالمي، كما كانت تفعل في القرن الماضي.
aXA6IDMuMTM0LjExMi4xMTEg جزيرة ام اند امز