المال الذكي.. كيف تحقق الصين التقدم بالذكاء الاصطناعي؟
الصين تمتلك مبادرات عدة تهدف لتحقيق الريادة بالذكاء الاصطناعي مثل "صنع في الصين" 2025، وخطة تنمية الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي.
نعاصر اليوم ثورة صناعية رابعة تتعلق بالتقدم التكنولوجي، وتقود لسباق محموم بين الدول الكبرى مخلفة وراءها ما يمكن أن نطلق عليه "حرب باردة تكنولوجية"، حيث تتسارع الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية والصين لتحقيق الريادة بالذكاء الاصطناعي.
وقد أكد الرئيس الروسي بوتين في أكثر من مناسبة على أن من يقود تطور الذكاء الاصطناعي عالميا سيقود العالم، ومن أجل ذلك تولي الصين اهتماما كبيرا لتطوير الذكاء الاصطناعي، حيث تكرث جل مواردها وبياناتها بهدف تحقيق تقدم بالذكاء الاصطناعي.
وفي ضوء ما سبق ذكره يشرح باحثان متخصصان بالدراسات التقنية وهما ويليام إيه كارتر وويليام دي كرامبلر في تقرير بعنوان "Smart Money on Chinese Advances in AI" النموذج الصيني في الذكاء الاصطناعي، عاقدين المقارنة بينه وبين النموذج الأمريكي.
آلية العمل الصينية لتطوير الذكاء الاصطناعي
يستهل الباحثان التقرير بالإشارة لمفهوم الذكاء الاصطناعي والذي لا يعكس مفهوما تكنولوجيا، وإنما يمثل اقترابات وأدوات جديدة يمكن استخدامها لأداء المهام التي كان يقوم بها الإنسان سابقا، ويكون ذلك عن طريق تجميع وتحليل البيانات المتعلقة بالبيئة المحيطة باستخدام تقنيات تُعرف بالتعلم الآلي، ومن خلال تلك البيانات المجموعة والمحللة يتم عمل نماذج محاكاة تستطيع التعامل مع المواقف المختلفة.
وفي هذا السياق تُطرح نقاشات عدة تتعلق بالتجربة الصينية على الساحة الدولية، من حيث آلية عملها وانتهاكها لحقوق الملكية الفكرية، وطبيعة البيئة التنافسية بها، وهو أمر يشير الباحثان إلى صعوبة تحليله في ضوء السرية الشديدة التي تتعامل بها الصين، وانغلاقها على نفسها.
ومع ذلك ففي ضوء البيانات المطروحة يسترسل الباحثان لشرح النموذج الصيني، موضحين أن الصين تمتلك مبادرات عدة تهدف لتحقيق الريادة بالذكاء الاصطناعي مثل "صنع في الصين" 2025، وخطة تنمية الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي (NGAIDP) التي أطلقها مجلس الدولة الصيني في عام 2017، وتهدف لريادة الصين بالذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وقد تضمنت الخطة أربعة أهداف تسعى الصين لتحقيقيها وهي:
1- أن تكون الصين أساس نظريات ابتكار الذكاء الاصطناعي.
2- قيادة زمام مبادرة الأبحاث التجريبية والخدمات والمنتجات التي تقوم على الذكاء الاصطناعي.
3- بناء سوق محلي رائد في الذكاء الاصطناعي، والهيمنة على السوق العالمي.
4- تعظيم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لزيادة قيمة الصناعات المحلية، واستغلال ذلك عالميا.
والجدير بالذكر أن خطة تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين تقوم على عاتق المحليات التي تتنافس لتطبيق استراتيجية الحكومة الصينية فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، فضلا عن مساهمة الشركات الناشئة والعملاقة والتي قد تكون بعيدة عن الحزب بالأساس مثل Baidu, Alibaba, and Tencent، وقد ساعد وجود تلك الشركات على زيادة الابتكار وسرعة تنفيذ الخطة، فتم التركيز على تطوير تطبيقيات معينة مثل التعرف على ملامح الوجه، والمركبات ذاتية القيادة، وتطوير اللغات الطبيعية، وعلم الروبوتات، فضلا عن تطوير منصات الإنترنت وبناء شبكات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء.
إضافة إلى ما سبق تكرس الصين جزءا كبيرا من التعليم لنظام STEM والذي يضم "العلوم، والرياضيات، والتكنولوجيا، والهندسة"، وهو ما جعلها تحتل المرتبة الثانية في عدد المتخصصين بالذكاء الاصطناعي والذي بلغ نحو 18 ألف متخصص، محققة مرتبة ثانية بعد أمريكا التي تملك نحو 28 ألف متخصص، وتعمل الصين على إعادة جذب الخبراء الصينيين المتعلمين بالخارج، وهو الأمر الذي يثير ردود فعل عنيفة ومضادة من قبل الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا، علاوة على ما جاء ذكره تكرس الصين تمويلات ضخمة في مجالات الأبحاث والتنمية متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إنه في عام 2017 بلغ نصيب الصين نحو 48% من تمويل الذكاء الاصطناعي عالميا.
ويشير التقرير إلى الخطوات الدؤوبة الصينية التي تسعى لنشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي على مستوى الدولة بأكملها، مثل نشر استخدام نظام الحوسبة السحابية cloud computing والذي من المتوقع أن تبلغ نسبة الشركات المستخدمة له نحو 29% بحلول عام 2020، كما أنها تهتم بعلم الروبوتات، مستهدفة تصنيع نحو 100 ألف جهاز روبرت بحلول 2020، فضلا عن تكريسها لمبالغ هائلة بهدف تأسيس شبكات الجيل الخامس، ومن المقدر أن يبلغ حجم استثماراتها في شبكات الجيل الخامس ما يتراوح بين 130 و220 مليار دولار خلال الفترة بين 2020 إلى 2025، ونتيجة لنقص العمالة الرخيصة وتغير مستويات المعيشة تتجه الصين لسد هذا العجز عبر تطبيق الذكاء الاصطناعي في قطاع الصناعة.
حجم الفجوة بين الصين وأمريكا
ينتقل التقرير في جزئه الثاني ليشرح طبيعة الفجوة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فيوضح أنه على الرغم من تلك الجهود المبذولة فلم تنتج الصين سوى 34% من الأوراق البحثية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والابتكار في عام 2018، فهي لا تزال قابعة خلف الولايات المتحدة الأمريكية والتي تمتلك أكبر معدل لإنتاج الأبحاث الابتكارية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، كما أن الجامعات الأمريكية تتفوق على الصينية في هذا الشأن، علاوة على التفوق الأمريكي بالمؤتمرات العلمية التي يتم فيها الإعلان عن الاكتشافات والابتكارات الجديدة، ولكن الأرقام تعكس الجهد الصيني المبذول في هذا الجانب، فمنذ عام 2012 حتى عام 2017 ارتفع عدد الخبراء الصينيين المشاركين في المؤتمرات من 10% إلى 23% من إجمالي الحضور.
ووفقا للأكاديمية الصينية للمعلومات والاتصالات، ففي عام 2017 سجلت الصين ما يقرب من 37,1% مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية التي سجلت نحو 24,8% من إجمالي براءات الاختراع المتعلقة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي عالميا، ولكن 23% فقط من التطبيقات الصينية هو ما أمكن تنفيذه مما يدل على أن العبرة ليست بالكمية ولكن بالجودة.
ويوضح التقرير أن الصين لم تستخدم اقترابا واسع النطاق لتطوير الذكاء الاصطناعي، ولكنها تركز على تطوير مجالات معينة مثل المركبات ذاتية القيادة، والتعرف على ملامح الوجه، وتطوير اللغات الطبيعية، وعلم الروبوتات، وتضم الصين حاليا ما يقرب من 1000 شركة ناشئة متخصصة بالذكاء الاصطناعي، بما يمثل نصف عدد الشركات الموجودة بالولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن حجم الاستثمار بالذكاء الاصطناعي بالشركات الصينية قد بلغ نحو 69% مقارنة بـ51% بأمريكا في عام 2017، فإنها حققت خسائر كبيرة تزيد على 90%، وهو ما يشير إلى أن استثمار تلك الشركات هو مجرد فقاعة جاهزة للانفجار في الوقت القريب.
على جانب آخر يوضح التقرير مجموعة من المعوقات التي تؤثر على تطور الذكاء الاصطناعي الصيني، والتي تتمثل في تأخر عملية رقمنة الشركات بالصين مقارنة بالولايات المتحدة التي تسبقها بمقدار 3,7 مرة، فضلا عن تراجع معدل استخدام الحوسبة السحابية بين الشركات والذي لم يتخط نصف عدد الشركات الصينية، إضافة إلى عدم إتاحة البيانات العامة لشركات الذكاء الاصطناعي وعدم وضع خريطة تصنيفية جيدة لها، فمن بين 122 دولة تأتي الصين في المرتبة 93 في حين تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثامنة في عام 2015 فيما يتعلق بإتاحة البيانات العامة.
هذا إلى جانب غياب جودة البيانات والتضليل الذي يجعل أنظمة الذكاء الاصطناعي المبنية على تلك البيانات غير دقيقة النتائج. ولم يغفل التقرير قانون الأمن السيبراني الصيني الذي وُضع عام 2016، والذي يضم بنود تعيق التعاون بين شركات الذكاء الاصطناعي المحلية والعالمية نتيجة لصعوبة نقل البيانات وتداولها، فضلا عن إشارته لبرمجيات الصين المُطورة والتي تختلف عن البرمجيات العالمية بهدف حماية الشركات الصينية المحلية إلا أنها في الواقع تعزلها عن العالم الخارجي وتحرمها من فرص استفادة قصوى، ويؤكد التقرير أن استمرار الصين في الاعتماد على اقتراب يسير من أعلى لأسفل بتوجيه حكومي يؤخر تقدمها بمجال الأبحاث والتطوير.
وختاما يطرح التقرير تساؤلا حول الموقف الأمريكي إزاء التقدم الصيني، موضحا أن المباراة ليست صفرية، فكلتا الدولتين استفادتا من بعضهما، حيث توجد مراكز بحثية صينية بالولايات المتحدة الأمريكية والعكس صحيح، وهو ما يدعم فكرة أن تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على موقعها في السبق المتعلق بالذكاء الاصطناعي بدلا من محاولة هزيمة الصين كما تحاول إدارة ترامب.
ويشير التقرير لضرورة أن تتوقف الولايات المتحدة عن تقليل التمويل المخصص للبحث العلمي، وأن تعمل على نشر ثقافة عامة تقلل من الخوف من استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتدعم التعاون بدلا من الصراع.
وإجمالا لما جاء ذكره يمكن القول إن الاستثمار الذكي في رأس المال الحكومي، مع وضع استراتيجيات يتعاون في تنفيذها القطاع الخاص مع الحكومات المحلية داخل الصين، هو السبيل الذي يجعل الصين تحتل مكانا بارزا في مجال الذكاء الاصطناعي عالميا، ولعل السباق الجاري حاليا في مجال بناء شبكات الجيل الخامس والجدل الدائر حول السماح للشركات الصينية الكبرى مثل شركة هواوي HUWAIWI بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يؤكد على تلك المكانة الصينية البارزة، ولكن ستظل الصين بحاجة لتطوير مبادئها واستراتيجيتها حتى تتمكن من مجاراة الولايات المتحدة الأمريكية.
aXA6IDEzLjU5LjEzNC42NSA= جزيرة ام اند امز