"الحورية الغامضة" داليدا.. إيطالية ولدت بمصر وانتحرت في فرنسا
رغم ما حققته داليدا الملقبة بـ"الحورية الغامضة" من نجاح إلا أن حياتها كانت مليئة بتفاصيل حزينة فرضت عليها الوحدة ومن ثم الانتحار
ربما يكون من الصعب في البداية الوصول إلى الأسباب التي تدفع فنانة ذاع صيتها عالميا ومصريا في الغناء والتمثيل إلى الانتحار، ولكن الأمر مع الفنانة داليدا يصبح سهلا.
الحورية الغامضة "داليدا"، كما كان يصفها بعض النقاد، والمولودة في شبرا بالقاهرة لأبوين مهاجرين تعود أصولهما إلى جزيرة كالابريا في جنوب إيطاليا، والتي تحل ذكرى ميلادها، الخميس، كانت حياتها شريطا طويلا مليئا بعقبات نجحت في تجاوزها لتسطر لنفسها تاريخا فنيا، ولكنها على ما يبدو لم تستطع تتجاوز عقبة الحب، فهزمتها الوحدة وقررت الانتحار.
كانت العقبة الأولى في حياة الفنانة التي سحرت العالم بجمال ورشاقتها وشعرها الذهبي هي والدها، وكان حاد الطباع، ففرض عليها أن تعيش حياه تقليدية بعيداً عن هوايتها وعشقها للفن.
وتقول في حوارات أجرتها أنها اقتنعت في البداية بالحياة الاعتيادية كأي امرأة، ولكن وفاة والدها إثر جلطة في الدماغ، منحها الفرصة لتتطلع لحياة أخرى بعيدة عن هذه الحياة التقليدية.
ملكة جمال مصر
وبينما كانت تتطلع لشق الطريق في المجال الذي تحبه، ضغطت عليها الظروف المعيشية الصعبة، وأقنعتها والدتها بالحصول على دروس في الطباعة على الآلة الكاتبة لتعمل سكرتيرة في شركة أدوية.
وخلال العمل في الشركة لم يفارق حلم النجومية داليدا، فتقدمت لمسابقة ملكة جمال مصر عام 1954، وفازت بها، وكانت جائزة الفوز عبارة عن زوج من الأحذية الذهبية، أسرعت بها إلى البيت ومن فرط فرحتها أخبرت والدتها بمشاركتها في المسابقة، فغضبت الأم لرؤية صورة ابنتها بثوب السباحة على الصفحة الأولى للصحف.
ورغم الفوز بالمسابقة، ظلت تعمل سكرتيرة في شركة الأدوية، مع الاستفادة من الشهرة التي نالتها بسبب لقب ملكة الجمال، فقدمت بعض الأدوار السينمائية لكنها لم تكن أدواراً بارزة، ونظراً للشبه الكبير بينها وبين هيدي لامار HEIDI LAMAR بطلة "SAMSON & DALILA"، اختارت يولاندا كريستينا جيجليوتي، وهذا اسمها الحقيقي، اسم داليلة كاسم فني في البداية.
السفر إلى فرنسا
وقررت داليلا في 24 يناير 1954 السفر إلى فرنسا بحثاً عن الشهرة، رغم اعتراض والدتها، وداهمها شعور بالقلق والوحدة في باريس، فاشتاقت إلى الشمس الدافئة في مصر، لكنها كانت تعلم أن سفرها وغربتها ضريبة الرغبة في الشهرة، فاستبدلت قلقها على الفور إلى ثقة مطلقة عندما تخيلت مستقبلها.
لم تكن رحلتها في باريس سلسلة، فقد نزلت في فندق بسيط في منطقة قريبة من شانزليزيه، وقامت بتقديم طلبات إلى وكالات مختلفة تبحث عن مواهب في مجال التمثيل، لكن لم تحصل على فرصة، وأخذت تبعث برسائل لوالدتها في مصر تشرح لها كل ما يجري، فتمنت الأم أن تعود ابنتها إلى مصر ثانية.
ظلت داليدا تحاول رافضة الاعتراف بالهزيمة، لكن في النهاية لم يكن لديها سوى خيار العودة بعد نفاد مالها، فحزمت حقائبها وتوجهت إلى مكتب الحجز لتحصل على تذكرة عودة إلى القاهرة، ليقابلها رجل يدعى (رولاند برجر)، اقتنع أنها تملك مواهب بحاجة لمن يكتشفها، وتقدم إليها وتعرفت به، كان الرجل مدرباً للصوت، فتطورت علاقتهما فحاول إقناعها بالغناء وأن تصرف النظر عن فكرة التمثيل، فهي تتمتع بصوت مميز، وأن الغناء سيفتح لها أبواب الشهرة.
لم تتقبل الفكرة، لكن الرجل استمر بإقناعها حتى وافقت، فبدأ بإعطائها دروساً في الصوت، وتحمل كل عصبيتها ومشاحناتها معه بسبب حدة طباعها التي ورثتها من والدها، حتى تمكن من تقوية صوتها فأصبحت قادرة على الغناء بشكل جيد، فأخذت تغني في الملاهي الليلية في فرنسا.
من داليلة إلى داليدا
وفي إحدى الليالي وحيث المكان الذي تغني فيه التقت بـ"الفريد" صديق المخرج السنيمائي الذي اكتشفها في مصر، ونصحها بأن اسم "داليلة" غريب وعدواني بعض الشيء وعليها أن تغيره.
لم تستوعب الفكرة في البداية، فهي منذ قدومها إلى باريس والجميع يعرفها باسمها المستعار "داليلة" وبعد تفكير طويل فكرت بأن تخلط اسمها الحقيقي "يولاندا" مع الاسم الذي تحبه "داليلة" وكانت النتيجة "داليدا".
وكانت نقلتها الكبيرة في باريس، عندما اعتلت المسرح فشاهدت شخصاً مهماً كان يجلس مع أصدقائه، وعرفت أنه يدعى"برونو"، مدير أولمبيا، وهي أشهر قاعة موسيقى في باريس.
كان برونو يبحث وقتها عن مواهب جديدة وشابة فرأت فيه فرصة عمرها، فأدركت أن عليها أن تكون في أفضل حالاتها على المسرح حتى يلاحظها، فغنت بشكل رائع لدرجة أن برونو قطع محادثته مع الأصدقاء وبقي يسمع بأذنيه ذاك الصوت المميز فأخرج ورقة وكتب عليه اسمها، وهي تشاهده من بعيد ولما تركت المسرح، انتظرت اتصالًا منه فقد كانت متأكدة أنه أعجب بغنائها.
لم يخيب ظن داليدا، وشقت طريقها بسرعة في عالم الفن، فتركت تاريخا فنيا هو عبارة عن أكثر من 1000 أغنية بلغات متعددة وحصلت على الألقاب والأوسمة الكثيرة وكرمها الجنرال الفرنسي ديجول بإعطائها ميدالية رئاسة الجمهورية بسبب أدائها الرائع وصوتها المميز.
وكانت أغانيها تحتل لوائح أفضل 10 أغنيات حول العالم من كندا إلى اليابان ومن مصر إلى الأرجنتين، وكانت في عام 1978 من أوائل الذين صوروا أغانيهم بطريقة الفيديو كليب بفرنسا، كما كان لها في مجال التمثيل 12 فيلما.
ومن أشهر أغانيها المصرية "حلوة يا بلدي" و"سالمة يا سلامة"، كما لعبت بطولة أفلام 1954 يوسف وإخوته مع عمر شريف، قناع توت عنخ آمون، سيجارة وكاس مع سامية جمال.
غموض ومآسي
كل التفاصيل التي امتلأت بها حياة داليدا بداية من النشأة الصعبة في كنف أسره محافظة وأب حاد الطباع ثم رحلتها إلى فرنسا، والتي لم تكن سهلة، جعلتها تبدو شخصية غامضة، فكان لقبها بين النقاد "الحورية الغامضة".
ورغم شهرتها وثروتها إلا أن حياتها الخاصة كانت أشبه بمسرحية مأساوية منذ بداية زواجها حتى نهايتها، حيث تزوجت من أول رجل حبته وهو "Lucien Morisse"وانفصلا عن بعضهما بعد زواج دام عدة أشهر فقط، وكان سبب الانفصال هو عثورها على حبها الحقيقي بعد أن اعتقدت أن حبها هو الرسام Jean Sobieski.
وفي سنة 1967 دخل العشق إلى قلب داليدا عندما التقت بالشاب الإيطالي "Luigi Tenco"، وكان مغنياً لا يزال في بداية طريقه وقد دعمته ليصبح نجماً لكن الفشل طرق بابه بعد مشاركته بمهرجان سان ريمو سنة 1967 فانتحر بمسدسه في إحدى الفنادق، والمؤسف في الأمر أن داليدا كانت أول من رأى جثته ممددة ومغطاة بالدماء، عندما ذهبت لتواسيه بعدم نيله التقدير في المهرجان.
وعاشت داليدا وحيدة بلا زوج أو أم لتصاب بالاكتئاب الذي دفعها للانتحار في 3 مايو عام 1987 بجرعة زائدة من الأقراص المهدئة، بعد أن تركت رسالة تحمل "سامحوني الحياة لم تعد تحتمل".
ودفنت داليدا في مقبرة مونمارتر (باريس)، وبعد وفاتها كرمتها الحكومة الفرنسية بأن وضعت صورتها على طابع البريد، وأقيم لها تمثال بحجمها الطبيعي على قبرها في عام 2001.