وثائق إسرائيل السرية عشية حرب 1973.. "الاحتمال ضئيل"
الافتراض الذي ساد في إسرائيل عشية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 هو أن احتمالات اندلاع الحرب كانت ضئيلة.
ويعكس هذا الظلام الذي كانت تعيشه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشأن فرص شن القوات المصرية والسورية حربا رغم بعض المؤشرات التي لم تتمكن إسرائيل، وأجهزة مخابراتها، من التيقن منها.
وتكشف الوثائق السرية الإسرائيلية التضليل الذي قامت به مصر وسوريا للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وهو ما لم تتمكن المخابرات الإسرائيلية من كشفه.
في 13 سبتمبر/أيلول 1973، هاجمت طائرات مقاتلة تابعة لسلاح الجو السوري طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي كانت تقوم بمهمة تصوير، وفق الوثائق السرية التي نشرتها إسرائيل بمناسبة مرور 50 عاما على الحرب.
وفي المعركة الجوية التي تطورت فوق البحر الأبيض المتوسط، أسقطت الطائرات الإسرائيلية 13 طائرة حربية سورية.
ومنذ ذلك اليوم، تزايدت حدة التوتر على طول خطوط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان. وبعد أيام قليلة، بدأت التقارير تصل عن تعزيز التشكيل السوري على جبهة هضبة الجولان، رغم أن التقارير أشارت إلى أن التشكيل دفاعي بحت، بحسب الوثائق.
ويرى البعض أن هذه الحادثة هي بداية المنحدر الذي أدى إلى اندلاع حرب يوم الغفران (المسمى الإسرائيلي لحرب أكتوبر/تشرين الأول)، أي حرب 1973، وفق الوثائق.
ووفقا لمحضر اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي الذي عقد في 16 سبتمبر/أيلول 1973، فقد استعرض رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أمام الوزراء في الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء تطور المعركة الجوية التي أسقطت فيها الطائرات السورية وطائرة ميراج إسرائيلية.
وردا على أسئلة الوزراء، قال دافيد إليعازر إنه قد يكون هناك رد عسكري سوري، لكنه قدر أنه لن يكون على نطاق واسع.
كما كرر وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان تقييمه بأن السوريين سوف يردون بطريقة محدودة.
ولكن من خلال متابعة المداولات فإنه لم يثر أي من المتحدثين احتمال تطور الحادث إلى حرب واسعة النطاق.
خداع استخباراتي!
ويقول الأرشيف الوطني الإسرائيلي: "خلال كل تلك الأشهر، دبرت مصر وسوريا في سرية تامة القوات على خطط الحرب والخداع الاستخباراتي الذي سبقها، والتي نجحت في تضليل جهاز المخابرات الإسرائيلي. وتضمنت الخطة شن هجوم سوري مصري مشترك ضد إسرائيل، بهدف إعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا وجزء من سيناء إلى مصر".
في نهاية سبتمبر/أيلول، ازداد تدفق المعلومات الاستخباراتية المقدمة إلى القيادة الأمنية الإسرائيلية حول عملية جارية لتعزيز الانتشار السوري في مرتفعات الجولان، وحول الحركة المكثفة لقوات الجيش المصري في منطقة قناة السويس.
وأجريت مشاورات وتقييمات للوضع فيما يتعلق بنوايا المصريين والسوريين هذه، ومع ذلك، تلقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير وكبار وزرائها تقييما مطمئنا من المخابرات العسكرية، وهي هيئة الاستخبارات المعينة كمقيم وطني، بأنه لا توجد معلومات تشير إلى هجوم مصري سوري وشيك على حدود إسرائيل.
واستند هذا التقييم، وفق الوثائق، إلى الافتراض، الذي عرف فيما بعد باسم "التصور"، بأن مصر لن تبدأ حربا إلا عندما ينضج عدد من الشروط التي من شأنها أن تضمن النجاح، وهذه لم تكن تتوفر بعد، في حين أن سوريا لن تهاجم بدون مصر، وبالتالي لن تذهب إلى الحرب قريبا.
حددت تقييمات الاستخبارات العسكرية تحركات الجيش المصري على أنها تمرين روتيني يقوم به هذا الجيش كل خريف، وكان ينظر إلى تعزيز المصفوفة السورية على أنه إجراءات دفاعية ضد هجوم إسرائيلي.
ومع ذلك، تقرر في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول تعزيز بعض قوات الجيش الإسرائيلي في مرتفعات الجولان.
مائير سافرت إلى ستراسبوغ
وتشير الوثائق إلى أنه، بناء على تقييمات المخابرات العسكرية، غادرت رئيسة الوزراء مائير إلى ستراسبورغ في 30 سبتمبر/أيلول للمشاركة في مجلس أوروبا الذي اجتمع في المدينة.
حتى إن مائير مددت إقامتها في أوروبا ووصلت من هناك إلى فيينا للقاء المستشار النمساوي برونو كرايسكي، لمحاولة إقناعه بإلغاء قراره بإغلاق معسكر العبور للمهاجرين من الاتحاد السوفياتي في شوناو، استجابة لطلب المسلحين الفلسطينيين الذين هاجموا قطارا للمهاجرين من الاتحاد السوفياتي في طريقهم إلى فيينا واحتجزوا رهائن.
في 2 أكتوبر/تشرين الأول، عادت مائير إلى إسرائيل، وطوال فترة إقامتها في أوروبا، استمر جهاز المخابرات في تلقي تقارير عن تدهور في انتشار سوريا في مرتفعات الجولان وزيادة في حالة التأهب في الجيش المصري على طول قناة السويس.
ومع ذلك، تشير الوثائق إلى أنه تم رفض جميع الدلائل التي تشير إلى إمكانية بدء الحرب مرة أخرى من قبل رؤساء المخابرات العسكرية، وتم قبول تقييماتهم من قبل قادة الجيش.
كان وزير الدفاع الإسرائيلي ديان أقل هدوءا بشأن الوضع، خاصة على طول الحدود في مرتفعات الجولان، وخشي من هجوم سوري محلي مفاجئ.
وبناء على طلبه، فإنه في اليوم التالي، 3 أكتوبر/تشرين الأول، عقدت مشاورات عسكرية سياسية بمشاركة رئيسة الوزراء ووزير الدفاع والوزيرين ألون وجليلي، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي إلعازار، وكبار ضباط المخابرات في غياب مدير المخابرات العسكرية إيلي زيرا.
وافتتح وزير الدفاع ديان اللقاء الذي خصص لمناقشة الوضع على الجبهات، والمعلومات الاستخباراتية حول النوايا المصرية والسورية، واستعداد الجيش الإسرائيلي.
وقال ديان، وفق الوثائق، إنه في القطاع المصري هناك عائق طبيعي تتبعه صحراء واسعة، ولا توجد مستوطنات قريبة، لذلك "إذا كانت هناك حرب، فستكون هناك".
وأعرب عن قلق أكبر إزاء احتمال اندلاع هجمات في القطاع السوري، حيث لا يوجد حاجز طبيعي وحيث توجد المجتمعات الإسرائيلية بالقرب من الحدود.
احتمال نشوب حرب مشتركة لا يبدو معقولا
أما أرييه شاليف، رئيس قسم الأبحاث في المخابرات العسكرية، فقد استعرض التقارير المقلقة التي وردت والتي تشير إلى شن هجوم وشيك من قبل الجيشين السوري والمصري، لكنه شدد على أن هناك عددا محدودا من المصادر.
وقال شاليف، إن قوات الجيش السوري في قطاع هضبة الجولان كانت بالفعل في حالة انتشار طارئ، ولكن في انتشار دفاعي نابع من الخوف من هجوم إسرائيلي، ومع ذلك، هناك استثناءات لهذا النشر يمكن أن تشير أيضا إلى إمكانية الاستعداد لهجوم.
ومضى شاليف يقول إن الجيش المصري كان في خضم مناورة كبيرة تحاكي على ما يبدو غزو سيناء.
وذكر أن الجيش المصري في حالة تأهب قصوى، لكنه أضاف أن "هناك تقارير معينة تفيد بأن هذا تدريب".
واختتم شاليف تقييمه بثقة: "لذلك، فإن احتمال نشوب حرب مصرية سورية مشتركة لا يبدو معقولا بالنسبة لي، لأنه لم يطرأ أي تغيير على تقييم المصريين بأنهم ليسوا مستعدين بعد للحرب.
واستنادا إلى الوثائق، فقد وافق رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إلعازار على ملخص تصريحات المخابرات العسكرية، لكنه أوضح أن الجيش السوري يمكن أن يتحول بشكل مفاجئ إلى هجوم من داخل نظامه الدفاعي.
وأشار إلى أنه في مثل هذه الحالة سيكون هناك رد قوي جدا من الجيش الإسرائيلي، ويشمل هجمات القوات الجوية على العديد من الأهداف الاستراتيجية في سوريا.
واختتم ملاحظاته بالتحذير من أنه على الرغم من كل التفسيرات التي أثيرت، لم يكن لديه تفسير مقنع لسبب وجود السوريين في مثل هذه الحالة الطارئة.
من جهته، فقد أشار وزير الدفاع ديان إلى أنه على عكس مصر التي تحتاج إلى عدة مراحل من الحرب لغزو سيناء، يمكن للسوريين استعادة مرتفعات الجولان في خطوة واحدة والاحتفاظ بها لاحقا بناء على عوائق طبيعية.
وبدورها، فقد ركزت رئيسة الوزراء الإسرائيلية على الحاجة إلى الاستفادة من الوضع لتعزيز توريد الأسلحة من الولايات المتحدة.
ولم يتم اتخاذ أي قرارات في الاجتماع، ولكن كانت النبرة أن الجيش الإسرائيلي يواصل انتشاره الحالي، باستثناء بعض التعزيزات للقوات في مرتفعات الجولان، وتقرر إجراء مناقشة حول الوضع في الحكومة يوم الأحد بعد يوم الغفران، الذي كان من المقرر أن يصادف يوم السبت.
تميز يوم الجمعة، 5 أكتوبر/تشرين الأول، بصيام يوم الغفران الذي كان على وشك البدء في المساء.
إجلاء عائلات المستشارين السوفيات يثير القلق
ولكن خلال الليلة السابقة، وردت إلى إسرائيل، وفق الوثائق، تقارير مقلقة عن إجلاء واسع النطاق لعائلات المستشارين السوفيات من مصر وسوريا، بمساعدة أسطول من الطائرات التي أرسلها الاتحاد السوفياتي بين عشية وضحاها إلى دمشق والقاهرة.
في ضوء ذلك، تم إعلان حالة تأهب عام على أعلى مستوى في تشكيل الجيش الإسرائيلي النظامي، ولكن دون أي تعبئة للاحتياط.
في صباح ذلك اليوم، عقد اجتماع عاجل في مكتب رئيس الوزراء، حضره وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات العسكرية.
وصف زيرا أخبار إجلاء عائلات المستشارين السوفيات والأسباب المحتملة لهذه الخطوة المفاجئة، وقال إن إسرائيل ليس لديها تفسير جيد لهذه الخطوة من قبل السوفيات.
ولكنه، وفق الوثائق، كرر تقييمه بأن هذه ليست استعدادات لهجوم، وأن الجيوش العربية كانت في حالة تأهب دفاعي خوفا من أن تهاجم إسرائيل.
وقال زيرا في الاجتماع، إن رئيس الموساد زامير سافر إلى الخارج لعقد اجتماع مهم حول هذا الأمر مع أشرف مروان (صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي تزعم إسرائيل إنه كان عميلا لها في حين تنفي مصر هذه المزاعم)، وسيقدم معلومات مهمة الليلة.
وظل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ثابتا في اعتقاده بأنه لا يتوقع وقوع هجوم مصري سوري، لكنه قال إن الجيش الإسرائيلي قام بالاستعدادات على أي حال.
وافترض: "إذا كنا سنهاجم، فسنحصل على مؤشرات أفضل".
وفي ضوء التقارير المثيرة للقلق، تقرر في الاجتماع أن ينقل، من خلال الأمريكيين ومن خلال السوفيات، توضيحا لسوريا ومصر بأن إسرائيل لا تنوي الهجوم.
كما تقرر عقد اجتماع عاجل لمجلس الوزراء مع الوزراء الذين بقوا في منطقة تل أبيب، دون أولئك الذين ذهبوا بالفعل إلى منازلهم في جميع أنحاء البلاد لقضاء العطلة.