صار المسؤولون الفرنسيون المتعاقبون يحجّون إلى موقع اللوفر في السعديات
«لوفر أبوظبي»، لم يعد يؤرق الفرنسيين، بل يستدعي اعتزازهم. هذا خبر جميل بعد أن أسال حبراً كثيراً، واستدعى غضباً عارماً يوم الإعلان عنه، قبل عشر سنوات. صارت الصحف الفرنسية تتنافس في الكتابة عن «الإنجاز» وتسريب الصور والمعلومات عن المتحف الذي سيكون مع افتتاحه في 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل «من بين الأجمل في العالم، إن لم يكن الأجمل على الإطلاق». هكذا وصفه جان لوك مارتينيز، الرئيس الحالي للمتحف الأم، ووضع المشروع على رأس أولوياته منذ وصوله إلى منصبه. وكان له أن يفعل، ليسرّع عجلة حاول من جاءوا قبله فرملتها، عمداً أو جهلاً، لكن بلوغ النهايات تطلّب جهداً وحنكة.
خلال عقد من الزمن، تغيرت ذهنيات، وولدت نظريات في دنيا الفنون، واكتشفت بلاد الأنوار أن الثورة الفرنسية لم تعد وحدها تكفي لإسعاد البشرية وإرضائها. وبعد أن استشاط فنانون وأكاديميون وحتى سياسيون، من مجرد فكرة افتتاح متحف يحمل الاسم «الشهير» نفسه في مكان آخر، بدا لبعض الفرنسيين وكأن بلادهم تبيع إرثها، كما يسوّق الأمريكيون ماركة «ماكدونالدز» أو «كوكاكولا» و«كنتاكي». وكانت العبارة التي تتكرر احتجاجاً أن «المتاحف ليست للبيع». وتحت هذا الشعار أطلقت حملة صاخبة.
الفرنسيون محافظون بطبعهم، وحين يتعلق الأمر بثقافتهم يزدادون انطوائية وخوفاً. عندما أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عن إجراء تحديثات على متحف اللوفر عام 1984، أبرزها الأهرامات الزجاجية التي تكاد اليوم، توازي برج إيفل في عدد الصور الملتقطة لها، قامت الدنيا ولم تقعد. واحتدمت سجالات حول التشوهات التي ستفسد بهاء «ساحة نابليون» العريقة. واتهم وزير الثقافة حينها جاك لانغ بقصر النظر. وبين المدافعين والمهاجمين، قامت معارك، حتى اعتبر هذا التغيير قضية القرن في البلاد.
مشروع إنشاء متحف «لوفر أبوظبي»، فجّر خلافات تخطت فرنسا، إلى أوساط فنية أوروبية. وعلى رأس الحملة كانت المديرة السابقة لـ«متحف أورسيه» فرنسواز كاشان، ومتحفيون مرموقون مثل جان كلير ورولان ريخت. وجمع هؤلاء ما يقارب خمسة آلاف توقيع من متخصصين في المجال لإيقاف المشروع الذي وصف بأنه «تجاري» ويبحث عن الربح على حساب التراث. ولم توفر الحملة جامعة «السوربون» في أبوظبي التي صارت بعد 11 سنة على افتتاحها مثار فخر لأحفاد موليير.
تحفة في صحراء السعديات، ستبقى "جوهرة" في تاريخ المعمار. القبة وحدها المستوحاة من التراث الإسلامي وتغطي المبنى الأساسي قطعة فنية متعة للناظر. "متحف اللوفر" في أبوظبي كلف نضالاً من أصحاب البلاد الذين يريدون لها أن تكون قطباً ثقافياً
العنفوان الفرنسي تروضه شراسة انفتاح لم تعد تستأذن المترددين. وبدل القلق من فقدان «الفرادة»، ها هم يفاخرون بأنهم أول من يفتح متحفاً عالمياً في العالم العربي، وبخاصة وهم يعرفون أن متحفين كبيرين سيكونان جاهزين في السعديات أيضاً أحدهما «متحف زايد» للمعروضات المحلية، لكن الآخر هو «غوغينهايم» الآتي من إسبانيا، والذي صار له فروع يديرها في نيويورك، ولاس فيغاس، فينيسيا كما برلين، إضافة إلى المركز الأم في بلباو.
فكرة المتاحف من الأصل يعاد النظر بها. حمل الآثار ونقلها إلى داخل صالات مغلقة بعيداً عن بيئتها الأصل والمكان التي وجدت فيه تدرس بعناية. القول إن الناس لا يفترض أنهم يحتاجون إلى تذكرة وإذن بالدخول، والوقوف في طوابير لرؤية الجمال مطروحة بقوة. تسييج الإبداع الإنساني وحجبه عن المارة مسألة فيها وجهة نظر. إعادة الفنون إلى الشارع، والآثار إلى مرأى العابرين تستهوي كثيرين. نقل 300 قطعة من فرنسا إلى الإمارات، بينها لوحات لليوناردو دي فنشي، وأخرى لفان جوخ، ومنحوتات إغريقية، صار من تقليديات العمل المتحفي الراهن. اللوفر نفسه وقبل أن يفتتح في الإمارات، أصبح له فرع منذ عام 2012 في لانس داخل فرنسا. تماماً كما افتتاح مركز آخر في ميتز حمل اسم «مركز جورج بومبيدو» المعروف في باريس، كنوع من «اللامركزية الثقافية».
صار المسؤولون الفرنسيون المتعاقبون يحجّون إلى موقع اللوفر في السعديات. الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند حرص على الذهاب إلى هناك لتفقد العمل، واعتبر المشروع «رسالة تسامح وسلام إلى العالم أجمع»، وبمرور الوقت وصف بأنه «حجر زاوية لحماية التراث الإنساني»، لا بل هو المكان الذي «سيحمي الحضارة الإنسانية ويحفظها من موجة العنف والأعمال المدمرة» في إحالة إلى الخراب الذي أصاب آثار العراق وسوريا، والمآسي التي ضربت ثقافة المنطقة.
وصلت فرنسا إلى خلاصة حكيمة بعد رحلة شاقة، احتاجت من أبوظبي إلى صبر طويل وعناد مضنٍ. عند توقيع الاتفاق عام 2007 نوقشت التفاصيل المملة، وبعده دخل الطرفان في دقائق الأمور وأصغرها، وللفرنسيين ما يعتبرونه غير قابل للتجاوز. صعب عليهم تفهم طبيعة التعاملات، تلكأ الفرنسيون في تعيين مسؤولين بمقدورهم النهوض بالعمل. لعل رئيس المتحف نفسه حينها لم يكن مقتنعاً بالفكرة أصلاً، رغم إظهاره الود. دخلت المفاوضات في متاهات قانونية، وشددت أبوظبي لهجتها أمام التقاعس غير المبرر، وأوقفت تسديد المستحقات ريثما تفي باريس بتعهداتها. تأخرت الورشة برمتها.
أما وقد استدرك الفرنسيون قبل فوات الأوان، أنهم سيخسرون فرصة ذهبية، فالمعروضات وصلت إلى «لوفر الصحراء» كما يحلو لهم تسميته، وباتوا يرون فيه إنجازاً يتجاوز دوره الثقافي، ليعزز مكانة فرنسا ويقوي أواصر العلاقات مع منطقة «استراتيجية» ومهمة. وهم يعولون على قدرة الإمارات على اجتذاب زوار ليس من العرب وحسب، بل من شرق آسيا، التي يزداد عدد سياحها، بحيث باتوا أولوية في الحسابات العالمية.
كانت فرنسا تزهو بتصدير الـ«فرنكوفونية».. صارت تباهي بتصدير «لوفرها» و«سوربونها»، وهي ليست سوى فاتحة. فقد أنجز المهندس جان نوفل، أحد عباقرة هذا الزمان، تحفة في صحراء السعديات، ستبقى «جوهرة» في تاريخ المعمار. القبة وحدها المستوحاة من التراث الإسلامي وتغطي المبنى الأساسي قطعة فنية متعة للناظر. «متحف اللوفر» في أبوظبي كلف نضالاً من أصحاب البلاد الذين يريدون لها أن تكون قطباً ثقافياً، وجهاداً فرنسياً مع الذات، استمر عقداً كاملاً، للخروج من قوقعة ذهنية «الاستثنائية» المنغلقة و«الحمائية» المفرطة التي لم تعد تطعم خبزاً.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة