أكثر من قرن كامل يفصل بين صدور كتاب الاقتصادى الإنجليزى الشهير جون مينارد كينز (النظرية العامة فى العمالة والفائدة والنقود
أكثر من قرن كامل يفصل بين صدور كتاب الاقتصادى الإنجليزى الشهير جون مينارد كينز (النظرية العامة فى العمالة والفائدة والنقود، 1936) وبين كتب الاقتصاديين البريطانيين التقليديين (أو الكلاسيك) من آدم سميث (1776) إلى دافيد ريكاردو (1817)، خلال هذه الفترة الطويلة تحولت بريطانيا من دولة فقيرة لم تتم ثورتها الصناعية بعد، ولها كثير من السمات التى نعرفها جيدا لما يسمى بالدول المتخلفة (أو الدول النامية)، ومنها مصر فى الوقت الحاضر، إلى دولة صناعية، بل أغنى دول العالم، ولها كثير من السمات التى تقترن فى أذهاننا اليوم بالدولة المتقدمة.
كان من الطبيعى إذن أن تختلف بشدة السياسة الاقتصادية التى دعا كينز الى تطبيقها إزاء أزمة البطالة فى الثلاثينيات، والسياسة التى كان ينصح بها الاقتصاديون الكلاسيك قبل ذلك بمائة عام، للخروج من حالة الفقر ومن أجل زيادة «ثروة الأمم»، كان الاقتصاديون الكلاسيك يرون المشكلة الأساسية فى انخفاض مستوى الادخار (بسبب الفقر نفسه)، بينما رأى كينز المشكلة الأساسية فى زيادة الادخار عن المستوى المرغوب فيه (إذ يتجه الميل للادخار للازدياد مع ارتفاع الدخل).
كان حل مشكلة الفقر فى نظر الاقتصاديين الكلاسيك يكمن فى زيادة العرض (أى زيادة المعروض من السلع عن طريق زيادة الادخار والاستثمار)، وليس هناك خوف فى نظرهم من صعوبة تسويق هذه السلع، إذ إن الزيادة فى العرض لابد أن تؤدى الى زيادة الطلب، (إذ أن زيادة الانتاج تقترن بها زيادة الدخل ومن ثم الإنفاق)، ومن ثم قولهم المشهور (العرض يخلق الطلب)، بينما رأى كينز أن حل مشكلة البطالة يبدأ بزيادة الطلب، أى زيادة الانفاق من جانب الدولة والأفراد، فهذا سيشجع على زيادة الإنتاج وتوظيف العمال، أى أن الطلب هو الذى يوجد العرض. كان لابد أن أبدأ بهذه المقدمة النظرية لأشرك القاريء معى فيما بدأته من حديث عن الأزمة الاقتصادية الراهنة فى مصر (الأهرام 17/10)، وذهبت فيه الى أن الحل الكينزى هو المناسب لنا الآن، ولكن رئيس الوزراء الأسبق، الدكتور حازم الببلاوى كتب (فى الأهرام 21/10) ما ينطوى على الرأى العكسى بالضبط، إذ قال إنه حيث ان حالة مصر هى أقرب الى حالة الدولة المتخلفة والفقيرة، أى أقرب الى حالة بريطانيا أيام الاقتصاديين الكلاسيك، منها الى حالة الدول المتقدمة، مثل حالة بريطانيا أيام كينز، وحيث ان مشكلتنا هى فى قلة الادخار وليست فى كثرته، فإن الحل لا يكون إلا من جانب «العرض»، أى زيادة الإنتاج ابتداء عن طريق زيادة الادخار والاستثمار، وليس بحفز الدولة والأفراد على المزيد من الإنفاق. لقد حول الدكتور الببلاوى إذن الحديث المنفرد الى حوار، وخيرا ما صنع، فما أحوجنا نحن الاقتصاديين المصريين الآن الى الاشتراك الجدى فى مثل هذا الحوار حتى نخرج من عنق الزجاجة الذى نجد أنفسنا فيه.
إن ردى على الدكتور الببلاوى يتركز فى الآتي: «غنى عن البيان أن من طبيعة الأمور أن تؤدى زيادة العرض الى زيادة فى الطلب، والعكس أيضا صحيح، أى أن تؤدى زيادة الطلب إلى زيادة العرض، مثلما هى الحال فى العلاقة بين الدجاجة والبيضة، ومن المسلم به أيضا أن مصر، كأى بلد فقير، تعانى من نقص الادخار أكثر مما تعانى من كثرته، وأن حالة مصر الآن مختلفة، فى أمور مهمة، عن حالة بريطانيا (والدول الغربية عموما) عندما كان كينز يقدم توصيته بالتركيز على زيادة الطلب والانفاق، ولكن هذا لا يجب أن يمنعنا من الاعتراف أيضا بأن هناك أوجه شبه مهمة بين الضائقة التى تمر بها مصر الآن (وأعنى على الأخص الخمس سنوات التى مرت منذ قيام ثورة يناير 2011)، وبين أزمة الغرب خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، البطالة فى الحالين هى المشكلة الرئيسية، وضعف الميل الى الاستثمار، وليس قلة الادخار، هو سبب أساسى فى شيوع البطالة وتدهور الإنتاج، فإذا كان الأمر كذلك، فإن زيادة الإنفاق، من جانب الدولة والأفراد، يمكن أن تسهم بقوة فى الخروج من أزمتنا، ولسنا بحاجة الى الانتظار حتى يزيد الميل الى الادخار بعد أن يرتفع مستوى الدخل. نعم، لقد كنا ولانزال دولة فقيرة، قبل يناير 2011 وبعده، ولكننا نعرف جيدا أن أشياء مهمة حدثت للاقتصاد المصرى منذ يناير 2011، وهذه الأشياء المهمة هى التى تفرض علينا بعض السياسات الجديدة، لقد انخفض معدل نمو الناتج القومى بشدة منذ الثورة، حتى أصبح فى بعض السنوات أقل من معدل نمو السكان (ومن ثم زاد الناس فقرا على فقر)، من أسباب ذلك التدهور الكارثى فى السياحة، بسبب اعتبارات الأمن وعدم الاستقرار السياسي، والانخفاض الشديد فى الاستثمارات الأجنبية، لأسباب مماثلة لأسباب تدهور السياحة، وانخفاض الميل الى الاستثمار حتى من جانب المصريين، أيضا بسبب تدهور الأمن وعدم الاستقرار، اقترن هذا بالطبع بتدهور قيمة العملة الوطنية، وزيادة ندرة الدولار، مما أضاف عاملا جديدا لعدم الاستقرار وللحذر من الاستثمار، قد يصعب أيضا اقناع المستثمر الأجنبى بالمجيء طالما استمرت حالة الأمن وعدم الاستقرار على ما هى عليه، ولكن هناك طرقا عديدة لتشجيع المستثمر المصري، حكومة وأفرادا، على تعويض الاستثمارات الأجنبية، ولو جزئيا. ستظل مع ذلك مشكلة توفر العملات الأجنبية التى كانت تجلبها السياحة والاستثمارات الأجنبية، ولكننا يجب أن نكف عن الاعتقاد بأن الدولارات (أو العملات الأجنبية عموما) هى فقط التى توجد فرصا للعمالة، لقد وظفت شركات طلعت حرب عمالنا بالاعتماد على السوق المحلى وليس على التصدير، والعملات الأجنبية ضرورية فقط للاستيراد، وتنخفض أهميتها بالضرورة كلما زادت قدرتنا على الإنتاج المحلى بمواد محلية.
إن لسياسة الائتمان دورا مهما فى هذا الصدد، فتوفير فرص الاقتراض للشباب بأسعار فائدة منخفضة وشروط ميسرة، وللراغبين فى الحصول على سكن رخيص، ولا يستطيعون توفير الأقساط الباهظة التى تطلب منهم فيما يسمى بالمساكن الشعبية أو الإسكان الاجتماعي، هو أيضا من وسائل مكافحة البطالة عن طريق زيادة الطلب الكلي، ولا أظن أننا اتخذنا الخطوة الأولى فى هذا الطريق بعد. طرحت أيضا، أثناء حكومة الدكتور الببلاوي، فكرة ممتازة تحقق أكثر من هدف نبيل فى نفس الوقت، هى تعميم الوجبات الغذائية فى المدارس، ولا أظن أنها وضعت موضع التطبيق بعد، هذه الفكرة وسيلة لرفع مستوى الدخل الحقيقي، بطريق غير مباشر، عن طريق ما تتيحه من وفر فى الانفاق للعائلات التى يفيد أولادها وبناتها من هذه الوجبات، مما يسمح لها بزيادة إنفاقها على سلع وخدمات أخري. الحوار لايزال مفتوحا، ويا حبذا لو أسهم عدد من الاقتصاديين المصريين بآرائهم عن كيفية الخروج من الأزمة الراهنة فى مصر، وعلى الأخص فى حل مشكلة البطالة.
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة