و كنتُ مواطناً أميركياً لما تردّدتُ، ولأسباب كثيرة تتعلّق بالموقف من العنصرية وزيادة الضرائب أكثر على الأغنياء واستكمال مشاريع توسيع الرعاية الصحية للفقراء وذوي الدخل المحدود، وأهلية التجربة الشخصية في العمل العام ناهيك عن الأهمية التاريخية الخاصة لانتخاب
لو كنتُ مواطناً أميركياً لما تردّدتُ، ولأسباب كثيرة تتعلّق بالموقف من العنصرية وزيادة الضرائب أكثر على الأغنياء واستكمال مشاريع توسيع الرعاية الصحية للفقراء وذوي الدخل المحدود، وأهلية التجربة الشخصية في العمل العام ناهيك عن الأهمية التاريخية الخاصة لانتخاب أول إمرأة رئيسةً للولايات المتحدة... لما تردّدتُ لحظةً في انتخاب هيلاري كلينتون للرئاسة.
امرأةٌ صعدت من تحت إلى أعلى السلّم الاجتماعي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى خصوصاً بعد أن عَرَفْنا خلال حملتها وقبل المناظرة أن جَدَّتَها عملت فترةً في المنازل لتعيل عائلتها. لكن كل هذا لن يمنعني من القول بعد أن شاهدتُ المناظرة التلفزيونية التي جرتْ بينهما فجر يوم أمس الأول الثلثاء بتوقيت بيروت، أن المرشّح دونالد ترامب هو مُحِقٌ جوهرياً في اعتباره أن ولادة "داعش" وانتشارها مسؤولية أميركية.
في المناظرة لم يستخدم ترامب تعبير أن باراك أوباما هو "مؤسِّس" داعش كما فعل في المرة الأولى، بل قال إن الفراغ الذي تركه الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، والذي هو نتاج سياسة باراك أوباما وهيلاري كلينتون، هي التي سمحت لـ"داعش" بتعبئته.
صحَّحتْ له هيلاري كلينتون حين ردّت عليه أن سياسة الانسحاب بدأها الرئيس جورج بوش الإبن وتابعها الرئيس أوباما بحسم. لكن هذا التصحيح الشخصي لا يغيِّر في صحة رأي دونالد ترامب موضوعيّاً. وهي أن السياسة الأميركية مسؤولة، وربما متواطئة، في فتح المجال أمام انتشار "داعش" وسيطرتها على أجزاء واسعة من سوريا والعراق.
المسألة ليست مسألة أشخاص، فما بدا من "تراخٍ" ولا يزال حيال وجود "داعش" هو ظاهرة شاركت فيها أطراف عديدة غير واشنطن، كتركيا أساساً ودول أخرى، ولكن لا يمكن فهم هذا المسار من دون التشديد على عاملَيْن:
الأول أن هذه "لعبة أمم" كبيرة لا تتوقّف بالضرورة على أشخاص مهما علا مقامهم. ولنتذكّر هنا أن خطة "الجراحة" التي أطلقها الرئيس بوش الإبن عام 2006 في البدء بتخفيف الوجود العسكري الأميركي عَنَتْ بل تواكبتْ مع ارتفاع حدة المواجهات السنية الشيعية والظهور القوي لـ"تنظيم القاعدة" في العراق حتى في بعض أحياء بغداد مما جعل القوات الأميركية في وضع أقل تعرُّضاً للهجمات خلافاً للسابق.
الأمر الثاني هو أن انتشار داعش ونشوء "دولتها" ارتبطا بعهد أوباما والانفجار السوري عام 2011.
في المرحلتين القاعدية العراقية والداعشية السورية العراقية عناصرُ استمرارية، كما قيل كثيراً. ودون أن نلجأ إلى نظرية المؤامرة السهلة، خُدِمَتْ المصالح الأميركية في وضع كل أطراف الصراع الإقليمية تحت ضغط داعش بأشكال مختلفة قبل أن تدخل هذه الوضعية في مرحلة استنزاف خطرة بعد تفاقم العمليات الإرهابية في أوروبا وأميركا ناهيك عن دول أخرى في العالم، مما بات يستوجب التحضير أو بدء إنهاء "داعش". وهو ما نظن أنه يمكن أن يحصل خلال عام وربما أقل. لأن التحركات التركية والأميركية والعراقية تعطي هذا الانطباع.
عدم أهلية دونالد ترامب الأكيدة للرئاسة لا تمنعنا، ويجب أن لا تمنعنا من الاعتراف، بأنه طرح أسئلةً وتوصيفاتٍ فعليةً للوضع في الشرق الأوسط ولاسيما من حيث تحميلُهُ السياسةَ الأميركيةَ مسؤوليةً أساسيةً في الفوضى المذهلة التي نعيشها من طرابلس الغرب إلى بغداد مروراً بسوريا.
لا أتبنّى هنا طبعاً الرأي الاستسهالي الذي يقول إن أميركا "صنعت" كل شيء في انهيارنا. ولكن في عدد من المسائل ذات البعد العملي كان دورها حاسما: عسكرة الثورة السورية التي أنهت ليس فقط طابعها المدني المهم في أشهرها الأولى بل دمّرت المجتمع السوري. كان مجتمعا محتقِناً قبل الثورة فصار بعد العسكرة مجتمعا مستأصَلاً.
... ثم موضوع "داعش": لا زلتُ مؤيداً للرأي القائل أن واشنطن تستطيع عبر تشجيع عملية عسكرية مشتركة مع تركيا والأكراد والجيش العراقي القضاء النهائي على دولة داعش، بل بإمكان الجيش التركي القيام بذلك وحده في 48 ساعة لو توفّرت الإرادة السياسية النزيهة، كما كتبتُ بعد سقوط الموصل عام 2014. ولنراهن: سيحصل شيءٌ من هذا في نهاية الأمر...
وقد اقترب.
عدا ذلك ورغم ذلك يبقى ترامب مرشّحاً غير مؤهّل للرئاسة قطعاً.
*نقلا عن جريدة "النهار"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة