"الكنز".. إسقاطات سياسية تربك المشاهد
حكايات كثيرة وتفاصيل بصرية دمجها المخرج شريف عرفة في فيلمه الجديد، الكنز حيث يختلط الغنائي بالملحمي والأسطورة بالإسقاط السياسي المعاصر،
السير الشعبية وأبوزيد الهلالي، وألف ليلة وليلة في خلفية حتشبسوت، وعلي الزيبق ودور الكهنة واستخدام الأقصر ودمشق كخلفية لحكايات الخلافة، ديكور الجرنة ومعابد الفراعنة، أشباح فيلم المومياء وظلال الفلاح الفصيح والقاهرة الفاطمية، وحكايات المساخيط والكنز أيضا.
حكايات كثيرة وتفاصيل بصرية دمجها المخرج شريف عرفة في فيلمه الجديد، حيث يختلط الغنائي بالملحمي والأسطورة بالإسقاط السياسي المعاصر، وهي خلطة تذكرنا بأفلام سابقة للمخرج نفسه مثل "يامهلبية يا وسمع هس"، وغيرها كأسلوب سرد يكشف عن خصوصية ويعيدنا إلى زمن الحواديت والرواة بأسلوب بصري مشوق، لكنه أحيانا ما يربك المشاهد.
هكذا هو فيلم "الكنز"، الذي يعود به مخرجنا بعد فترة غياب طويلة نسبياً، ليكشف أن الفنان الحقيقي لا يصيبه الصدأ وأنه قابل للتجدد والإبهار كلما مر عليه الزمن مثل الذهب أو الحجر الثمين، وربما ليكشف لنا أيضاً أن السينما الحقيقية لا تزال بخير رغم حصار العشوائيات البصرية والبلطجة الفكرية التي أشاعها تجار السينما الرخيصة في السنوات الأخيرة.
الفيلم يأخذنا في رحلة عبر 3 عصور مختلفة؛ عصر حتشبسوت، تجسدها هند صبري، وزمن على الزيبق يجسده محمد رمضان، الذي يجسد أيضاً دور الأب حسن رأس الغول، نشاهد الشطار ومقدمو الدرك في عهد الولاية العثمانية، ثم الانتقال لعهد الملك فاروق والبوليس السياسي، وكأن الفيلم يريد أن يقول لنا ما أشبه الليلة بالبارحة، فرغم اختلاف الحكايات في كل زمن فإن التفاصيل واحدة أو تكاد تتطابق منذ الفراعنة مروراً بقاهرة المعز سنوات الخلافة العثمانية، وانتهاء بقاهرة الأربعينيات والثلاثينيات، وربما يمتد الإسقاط حتى يومنا هذا.
و"الكنز" في فيلمنا له أكثر من معنى وتصرف بدءا من مصر أرض كل هذه الحضارات التي ما أرادها ظالم بسيفه إلا قسم ظهره الله، وهو مدلول أيضاً للعديد من المعاني التي وردت على لسان أبطال الفيلم، خصوصاً "بشر" بك عن كيفية استخدام العقل والقلب، وإشارته إلى أن من أراد كل شيء يخسر كل شيء، خصوصاً أن الأشياء البسيطة التي قد لا نراها قد تكون هي كنزنا الحقيقي الذي نعيش فيه ويعيش فينا.
والحكاية تبدأ من عند حسن، الشاب العائد من أوروبا، الذي يجبره والده "بشر" على العودة لمصر بعد أن أجبره على دراسة علم المصريات بالخارج للوصول للكنز، انطلاقاً من أرض طيبة أو الأقصر، ذلك المفتوح المفتوح، والذي يحوي أكثر من نصف آثار العالم، ويعود «حسن بشر» الغائب وهو لا يملك بداخله سوى رغبة في الرحيل مجدداً، لكن وصية والده (محمد سعد) التي تركها مسجلة على شرائط فيديو، إضافة إلى بعض البرديات، التي تحمل حكايات، تجبره على البقاء لفك طلاسمها، والتي تتحول خلال السيناريو إلى حكايات العصور الثلاث.. وكأنها الراوي أو المعلق.
وعلى الرغم من أن أسلوب السيناريو الذي كتبه عبدالرحيم كمال ومدة الفيلم التي تصل لـ3 ساعات كاملة قد أصابه التشتت من كثرة الفلاش باك، وهو عيب رئيسي في أي فيلم سينمائي، إلا أن عناصر المشاهدة السينمائية والغناء والحوار الرشيق الممتع يحيلك إلى ألف ليلة وليلة، وكأنك داخل أسطورة لا تخلو من الحكمة والتأمل والمتعة أيضاً.
الفيلم أيضاً يحمل الكثير من الرسائل، وهو ينتقي بعناية قصة عناصر الدرك الذين نهبوا الناس، والشحات مبروك الذي ينطق بالحق لعلي الزيبق، ورأس الغول الذي أسماه الزيبق لأنه لا أحد تمكن من الإمساك به، وبه كل الصفات، حيث جمع الشطار تحت راية واحدة ليصبحوا "إيد واحدة" ضد كل ظالم، في إشارات موازية إلى روبن هود، على الرغم من أن الزيبق هنا لم يكن يسرق من الكبار ليمنح الغلابة وإنما كان أقرب لأدهم الشرقاوي في أسطورة موازية وفيلم آخر.
وفي الفيلم سوف نرى "ديكور والجرنة" والنظرة التقليدية للاحتلال العثماني وعصر الخلافة باعتباره ظلما وضرائب وانفلاتا ونهبا، ودخول بيت المساخيط الممنوع ولعنته وسر الأسرار، وسنرى ظلالا لحكم الفلاح الفصيح، وحوارا حول أن العلم والفن هما الحياة ودونها تموت الشعوب، ولا تستحق الأرض التي تحيا عليها، على لسان مدرس في عهد حتشبسوت قبل أن يتحول لحبيب وربما عشيق لها.
كما سنرى مظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي عبر مزج وحكايات البوليس السياسي والكرسي والبحث عن المنصب السلس، وكذلك كباريهات الاستربتيز المستوردة مع الاحتلال الإنجليزي، كما سنتابع صوت مطربة الحب الذي يحلق بك في زمن أسمهان لتشعر وكأنك تسمع أصواتاً من السماء.
في الفيلم أيضاً سوف نتابع حلم معلم العوام النوبي، الذي يريد أن يبني معبداً يصل الأرض بالسماء، وهذا هو حلمه بدلاً من النماء والزراعة مثلا، وكيف أن فرض الضرائب والبصاصين ولعبة البصاصين والشعب مثل القط والفار في إشارات معاصرة، كذلك دور الكهنة في توجيه الحكام، ونجاحهم في تزويج حتشبسوت من تحتمس واختلاط الدم المقدس بغير المقدس، حيث إن الأخير غير شرعي، ربما في إشارة معاصرة إلى زواج الإخوان بعرش مصر، حتى الحاكم المكلف بحفظ كنز مصر، وعاش في الحسين لا تخلو من إسقاطات.
كما سنتابع عبر إضاءة رائعة ومناسبة لمدير التصوير أيمن أبوالمكارم، ومونتاج متدفق لداليا الناصر، وديكور المبدع أنسي أبوسيف، وموسيقى هشام نزيه واستعراضات عاطف عوض، حالة من الحركة والتناغم جسده ممثلون مبهرون، بدءا من إعادة اكتشاف محمد سعد كممثل، والتأكيد على شعبية محمد رمضان في دور شعبوي الطبع، مروراً بروبي حبيبة الزيبق المتمردة الجسورة في الحب، والمبدع محي إسماعيل أو كبير الكهنة، وهند صبري أو حتشبسوت التي ثبرت أغوار شخصية امرأة قوية وعاشقة في الوقت نفسه باقتدار، مروراً بعبدالعزيز مخيون وهيثم أحمد ذكي وآخرون.
ويبقى "الكنز ".. ورغم عيب السيناريو، واحداً من أهم الأفلام التي أنتجت في تاريخ السينما المصرية المعاصرة، حيث تختلط فيه متعة المشاهدة والفرجة السينمائية بعبق التأمل والإسقاط المعاصر في رحلة تشبه حواديت ألف ليلة وليلة، التي تظل عالقة بالأذهان حتى بعد أن تنتهي من مشاهدتها لمدة ليالي طويلة أخرى قادمة.