مخططات إقليمية ودولية تسعى إلى إعادة صياغة النظام الدولي من خلال التغيير الجيوسياسي القسري في مناطق عديدة خاصة في المنطقة العربية.
يُعتبر العنوان المذكور أعلاه أقرب للصيغة البحثية التي لا تتناسب كثيرا مع صيغة المقال الصحفي، إلا أنني ارتئيت استخدامه كونه هو العنوان الذي طُلِبَ مني أن أتحدث عنه في كلمتي، في افتتاح منتدى مراكش للأمن (10-11 فبراير 2017)، والتي أوردها هنا بعد محاولة إعادة إخراجها، قدر المستطاع، كمقال سلس يطيب للقارئ الصحفي قراءته.
***
بداية لابد التأكيد على أن موضوع “التهديديات الجديدة الناشئة لا يمس منطقة جغرافية بعينها أو هو شأن خاص بدولة أو مجموعة دول معينة، بل هي ظاهرة عالمية معقدّة، ازداد خطرها على الدول والمجتمعات، أساسا مع تكريس العولمة الاقتصادية وتدعيم اقتصاد السوق وعجز المنظمة الأممية في حل النزاعات الإقليمية والدولية وازدياد النشاط المشبوه للجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وانتشار الاستخدام غير السليم لشبكات الانترنت ووسائل الاتصال الالكتروني… إضافة إلى ظهور مخططات إقليمية ودولية، بعضها معلن وبعضها الآخر غير معلن، تسعى إلى إعادة صياغة النظام الدولي من خلال التغيير الجيوسياسي القسري في مناطق عديدة، وبالأخص في المنطقة العربية.
الجهات الفاعلة من غير الدول
قبل التعريف بالتهديدات الناشئة في المنطقة العربية، أوضح مفهوم وماهية مصطلح “الجهات الفاعلة من غير الدول”، لما لها من استخدامات غير دقيقة في بعض التقارير والتحاليل السياسية والجيوسياسية.
يذهب العديد من الباحثين إلى حصر “الجهات الفاعلة من غير الدول”، في علاقتها بالتهديدات الناشئة، بالمجموعات الإرهابية والميليشيات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة. لكن في الواقع إن هذه “الجهات الفاعلة من غير الدول” هي أشمل بكثير، وتلعب أدوارا كبيرة في التأثير على سياسات الدول، وتساهم بصورة فعّالة في عمليات التغيير الجيوسياسي في عدّة مناطق بالعالم.
واعتمادا على الدراسات والبحوث في السياسة والعلاقات الدولية، يمكن تقسيم “الجهات الفاعلة من غير الدول” إلى صنفين:
* الجهات الفاعلة الحكومية-الفرعية والمعروفة أيضا باسم الجهات الفاعلة المحلية، مثل النقابات العمالية.
*الجهات الفاعلة العابرة للحدود التي تضم:
* المنظمات الحكومية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، وحلف شمال الأطلسي.
* الشركات العابرة للحدود، مثل شركات النفط العالمية والشركات التكنولوجية.
* المنظمات غير الحكومية.
* المجموعات الإرهابية المتطرفة، مثل الحشد الشيعي وحزب الله وداعش.
* مجموعات الجرائم الدولية، التي عادة ما تعمل بصورة غير قانونية في مجالات صنع وترويج المخدرات وعمليات الاتجار بالبشر.
وسيقتصر هذا المقال على تحليل أدوار المنظمات غير الحكومية، “كجهات فاعلة من غير الدول”، وعلاقتها بالتهديدات الناشئة والتغيير الجيوسياسي الحاصل في المنطقة العربية.
الارهاب ومشروع التغيير الجيوسياسي
إذا ما نظرنا إلى الوضعية السياسية والأمنية للمنطقة العربية، فإننا نجد أن صعود الإرهاب وانتشار الميليشيات المسلحة وتعطيل عمل مؤسسات وقوانين الدولة وازدياد التطاحن الطائفي والايديولوجي بين أبناء الشعب الواحد ومحاولات إسقاط الدولة نفسها، تعتبر أهم وأخطر التهديدات الجديدة الناشئة منذ استقلال معظم الدول العربية في منتصف القرن الماضي.
وإذا كان البعض ما يزال يتحدّث عن تهديدات ناشئة في المنطقة العربية لإسقاط الدول، فإن الواقع يتحدث اليوم عن دول سقطت بالفعل، في ظروف معقّدة، مبهمة، وغير واضحة، وأقل ما يقال عنها إن الأطراف الخارجية ذات المصلحة والجهات “الفاعلة من غير الدول” لعبت الدور الأكبر من أجل الوصول إلى ما آلت إليه الأمور اليوم من نتائج كارثية.
بالرجوع إلى ما آلت إليه الأوضاع في العراق منذ الاحتلال الأميركي سنة 2003، نجد أن جميع الاتهامات التي بُني عليها التدخل الأميركي كانت خاطئة باعتراف الحكومتين الأميركية والبريطانية بشأن موضوع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية المزعومة وغيرها من الاسباب.
أما الحديث عن دعم الديمقراطية في هذا البلد، فإن الواقع بيّن أن هذا الاحتلال، وبعد فشله الذريع في إدارة البلاد بعد سقوطها، تسبب في هدم الدولة وقتل وتهجير ملايين العراقيين، ومهّد لعملية تقسيم البلاد على أسس طائفية، وفتح المجال إلى ظهور مجموعات إرهابية وميليشيات مسلحة أهمها الحشد الشيعي وداعش.
وفي ليبيا، بعد تدخل حلف الناتو سنة 2011 بدواعي حماية المدنيين، وانهيار نظام القذافي، أضحت البلاد بلا مؤسسات تنتشر فيها الأسلحة بكثافة وترتع فيها ميليشيات ومجموعات مسلحة ما يجعل ليبيا مهدّدة بانقسامات على أسس قبلية وعرقية وإيديولوجية.
أما بالنسبة للوضع في سوريا، فإنها فقدت مئات الآلاف من مواطنيها وأراضيها وسيادتها، بالإضافة إلى الأرقام المفزعة التي تعبّر عن عمليات قتل وتهجير وخراب كبيرة، ربّما لم تشهدها المنطقة العربية بأسرها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا في العراق بعد 2003.
ولا يمكن الحديث عن أن باقي دول المنطقة العربية كانت أكثر حظا لأن الأوضاع الداخلية، مع الاختلافات النسبية بين الدول، تبقى هشّة في ضوء عدم الاستقرار وضعف مؤسسات الدولة، والضغط المستمر للقوى الإرهابية والمجموعات المتطرفة التي تستهدف التغيير في مسارات لا تختلف عن ما جرى في ليبيا وسوريا والعراق.
توظيف التهديدات الناشئة
موضوع التغيير الجيوسياسي في المنطقة العربية باستخدام وسائل متعدّدة بما فيها التهديدات الناشئة وتوظيف “الجهات الفاعلة من غير الدول”، المنضوية تحت مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، لم يعد سرّا على أحد، بل أثبتت الأحداث التي مرت بها المنطقة، لربما منذ الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003، أن عملية فرض التغيير الجيوسياسي القسري على شعوب المنطقة وإعادة صياغة النظام الدولي، تُواصل طريقها مهما اختلفت الحكومات الغربية ومهما رُوّج للأهداف الإنسانية للمنظمات غير الحكومية، كجهات فاعلة من غير الدول، وكجهات تدّعي دعمها للديموقراطية وحقوق الإنسان.
في 19 ديسمبر 2006، نشرت مجلة التايم الأمريكية تقريرا سريا، قُدّم إلى إدارة بوش الابن يضع الخطوط العامة للإطاحة بالنظام في سوريا. تعتمد الخطة، حسب التقرير، على توظيف النشطاء والحقوقيين وتزويدهم بمواد عبر الإنترنت لنشرها بهدف التأثير على الرأي العام المحلي والإقليمي في فترة الانتخابات النيابية المخطط لها آنذاك في مارس 2007، وكذلك بتخصيص تمويل مالي هام يُمرّر عبر برنامج “مبادرة الشراكة الشرق أوسطية”. وتنص الخطة أيضا، حسب التقرير، على الاعتماد على الإخوان المسلمين، كجهة فاعلة من غير الدول لنفس الغرض.
وربما يكون هذا تأكيد آخر على أن حركة الإخوان المسلمين، وغيرها من حركات الاسلام السياسي، ربّما تكون من أهم “الجهات الفاعلة من غير الدول”، التي لعبت ولا تزال تلعب دورا أساسيا في عملية التغيير الجيوسياسي في المنطقة، وخاصة ضمن أحداث ما يسمى بــــــ “الربيع العربي”.
نشر مركز الأبحاث الأمريكي ميدل ايست بريفينغ بواشنطن، تقريرا بتاريخ 9 يونيو 2014، وتحت عنوان ” وزارة الخارجية الأميركية، وثيقة تؤكد أجندة لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط”. وجاء في التقرير أن الولايات المتحدة تقوم عبر برنامج دعمها لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، المنضوي تحت برنامج مبادرة الشراكة الشرق الأوسطية، بالتلاعب بهذه المنظمات غير الحكومية وأعضائها لتتماشى مع أهداف الأمن الداخلي الأميركي.
ويقول التقرير أيضا إن البلدان المستهدفة من هذا البرنامج هي: اليمن تونس ومصر والبحرين والمملكة العربية السعودية، وتم إضافة دولتين بعد سنة من إعداد البرنامج وهما: ليبيا وسوريا.
ويضيف نفس التقرير أنه في إطار سياسة التغيير الجيوسياسي في المنطقة والمضي قدما في تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، تم في سبتمبر 2011، إنشاء مكتب تنسيق خاص بالانتقال السياسي في الشرق الأوسط، عُيّن على رأسه وليام بي تايلور الذي عمل سفيرا للولايات المتحدة الأميركية في أوكرانيا في فترة ما سُمي بـ”الثورة البرتقالية” بين سنوات 2006-2009.
إن هذا المثال يؤكد مرّة أخرى، أن المنظمات غير الحكومية استخدمت ولا تزال كجهات فاعلة من غير الدول، للمساهمة في عمليات التغيير الجيوسياسي في المنطقة العربية.
في نفس الإطار، نشر المرصد الجيواستراتيجي للإعلام التابع لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس، دراسة بتاريخ 5 يوليو 2011، تحت عنوان “الدبلوماسية العامة. القوى الناعمة والتأثير على الدول”.
ذكرت الدراسة أن مسألة إعادة تشكيل المناطق الاستراتيجية في العالم للضمان والدفاع عن المصالح الأميركية، بدأت منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن، الذي جعل من تصدير الديمقراطية المحور الأساسي في السياسة الخارجية الأميركية.
وتواصل هذا المشروع مع الإدارات المتعاقبة مع اختلاف في العناوين، إذ ركزت إدارة بوش الابن على مشروع دمقرطة الشرق الأوسط، وإدارة الرئيس بيل كلينتون على القوة الناعمة لوسائل الاتصال ودعّمتها بشبكات الإنترنت، في حين ركزّت إدارة باراك أوباما على الترويج لقواعد الحوكمة الرشيدة والمساندة الفاعلة للمجتمع المدني عبر ما يُدعى بمختصي الديموقراطية والمنظمات غير الحكومية.
وتشير الدراسة إلى أن معظم النشطاء وممثلي المنظمات غير الحكومية التي كانت جهات فاعلة في ما سُمي بـ”الربيع العربي” وخاصة في مصر وتونس وسوريا والبحرين، تم تدريبهم على تقنيات المعارضة السلمية من قبل نشطاء صربيين منتمين لمجموعة أوتبور التي أطاحت بملوزيفيتش أواخر التسعينات.
وتضيف الدراسة أن مجموعة أوتبور تم إعادة تسميتها إلى كانفاس التي تختص في تقديم الاستشارات حول المظاهرات في الشارع والترويج لها وإبرازها إعلاميا. وأصبح المركز الدولي المختص في الديموقراطية السلمية بتمويل جزئي من مؤسسة فريدم هاوس الأميركية.
وتعتبر هذه الدراسة شهادة قوية تثبت بقوة أن التهديدات الناشئة الفعلية هي محاولات إسقاط الأنظمة والدول مقابل الفوضى وعدم الاستقرار، وأن المنظمات غير الحكومية، كجهات فاعلة من غير الدول، هي أدوات تعمل، بعلم أو دون علم، ضمن عمليات التغيير الجيوسياسي وإعادة صياغة النظام الدولي الجديد.
دور مراكز الدراسات والبحوث
يدخل في صنف المنظمات غير الحكومية عدد كبير من مراكز الدراسات والبحوث التي تنشر بصورة دورية دراسات وتقارير حول الأوضاع السياسية والحقوقية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
وتعتبر مراكز الدراسات والبحوث الغربية من أهم “الجهات الفاعلة من غير الدول” إذ أن بعض الدراسات التي تُكلَف بإعدادها حول المسائل الجيوسياسية والاستراتيجية، هي في واقع الأمر نوع من خريطة الطريق للقوى الغربية ضمن مشروع التغيير الجيوسياسي أو إعادة تقسيم المناطق الاستراتيجية حول العالم، أو أيضا إعادة صياغة النظام الدولي الجديد.
وفي الواقع، أول من بدأ بالحديث عن إعادة صياغة النظام العالمي الجديد أو من تنبأ بتقسيم الدول على أسس طائفية أو عرقية، وأول من نشر مشاريع خرائط لإعادة تقسيم المناطق الاستراتيجية، هي مراكز الدراسات والبحوث. وهي بذلك تلعب دورها الفاعل في تجربة ردود الفعل حول طرح المخططات الجيوسياسية وتسهيل قبولها على المستوى الدولي.
وحسب تصنيف “برنامج مراكز التفكير والمجتمعات المدنية التابع لجامعة بنسلفانيا. يوجد 6750 مركز دراسات وبحوث حول العالم، منها 3701 مركز في أوروبا وأمريكا الشمالية. وتعتبر هذه المراكز هي القوى الفاعلة في المساعدة على إعداد البرامج وتنفيذ المخططات في جميع المجالات وفي مختلف مناطق العالم.
وفي نفس الإطار تقوم العديد من الشركات متعددة الجنسيات أو العابرة للحدود، بصفتها “جهات فاعلة من غير الدول”، بمجموعة من النشاطات المساندة ذات صبغة مجتمعية أو أخلاقية، والتي تصب في نفس هدف التغيير الجيوسياسي القسري في العديد من مناطق العالم.
وكمثال على ذلك، نذكر ما قامت به شركة جوجل في شهر يونيو 2011، بتنظيم ملتقى دوليا في مدينة دبلن، بإيرلندا، حول مقاومة التطرف والعن، بحيث ضم هذا الملتقى، بالإضافة إلى ممثلي المنظمات غير الحكومية والباحثين والأكاديميين، حوالي 80 شخصا من الأعضاء السابقين “التائبين” للمجموعات الإجرامية وعصابات حليقي الرؤوس والنازيين الجدد والإسلاميين من دول مختلفة، الذين جاؤوا يستعرضون التجربة السيئة التي مروا بها، وليقدموا ما يُدعى بالنصح والحلول ضدّ مظاهر العنف والتطرف.
ولم يكن للفعالية أية علاقة بالتكنولوجيا ولا بالتطور التقني، بل كانت إحدى النشاطات السياسية التي تقوم بها الشركات العابرة للحدود، كجهات فاعلة من غير الدول، في إطار شراكات تصب بالضرورة ضمن مشاريع وبرامج دولية معينة.
ما يسمى بــ”التهديدات الجديدة الناشئة” في المنطقة العربية والمتمثلة أساسا في صعود الإرهاب والتطرف ومحاولات إسقاط الدول، ليست إلاّ نتائج، وأدوات، لعملية التغيير الجيوسياسي القسري المطروح من قبل الدول الغربية، في إطار إعادة صياغة النظام الدولي الجديد والصراع حول مناطق النفوذ الاستراتيجية حول العالم، بحيث تلعب فيه “الجهات الفاعلة من غير الدول” الدور الأكبر محليا وإقليميا ودوليا وخاصة في مستوى العمل المشبوه للمنظمات غير الحكومية الممولة من أطراف ذات مصلحة.
نقلا عن صحيفة العرب
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة