التشفير بين المتطلبات الأمنية وحماية الخصوصية
تحاول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا تقويض التشفير؛ الطريقة الوحيدة الموجودة حاليًا لحماية المعلومات في العالم بشكل موثوق
تعددت الجهود الرامية إلى تقويض مساعي فيسبوك لتشفير الرسائل بحجتي الإرهاب واستغلال الأطفال، وفي إطارها اتجهت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا للضغط على فيسبوك لوقف خططها لتشفير الرسائل على التطبيقات التابعة للشركة من ناحية، وفتح المجال لحكومات الدول الثلاث للوصول إلى رسائل المستخدمين من ناحية أخرى.
ويعد التشفير إحدى الآليات والوسائل الضرورية لحماية المعلومات وتأمين الاتصالات الرقمية، ذلك أن تشفير حركة المرور يتيح قراءة المعلومات المرسلة بواسطة أولئك الذين يملكون مفتاح فك التشفير. ودون امتلاكه لا يمكن إلغاء التشفير أو قراءة المعلومات المرسلة. أو بعبارةٍ أخرى، تصمم أنظمة الاتصالات المشفرة من "طرفٍ إلى طرف"، بحيث يمكن قراءة الرسائل من قبل المرسل والمستلم فحسب، حتى مع تخزين الرسائل المشفرة بواسطة طرفٍ ثالثٍ غير موثوق به كشركات التكنولوجيا نفسها على سبيل المثال.
ووفقًا لمؤسسة الحدود الإلكترونية (EFF)، يضمن التشفير تحويل مختلف الرسائل إلى رسائل سرية من جانب مُرسِلِها الأصلي، على أن يُفكّ تشفيرها بواسطة المستلم النهائي. وفي هذا السياق، أكد المدير السابق للمخابرات القومية الأمريكية "جيمس كلابر" أهمية التشفير لأمن الإنترنت، وهو ما يفسر اتساع تطبيقاته. فبدون تشفير حركة المرور على الإنترنت، يسهل اختراق وسرقة المحادثات والرسائل التي يتبادلها مختلف المستخدمين، بل والاحتفاظ بها وتسجيلها من قبل مختلف الفاعلين سواء الدول أو الشركات أو القراصنة أو الإرهابيين.
وبهذا المعنى، يساعد التشفير مختلف الفئات (بمن في ذلك المراسلون، والمعارضون، والناشطون، والعاملون في المنظمات غير الحكومية، والمحامون، والسياسيون، وغيرهم) على القيام بعملهم، ليس فقط في أكثر دول العالم قمعًا، ولكن في مختلف دول العالم أيضًا.
وتستخدم تطبيقات المراسلة –بما في ذلك واتساب وفيسبوك وغيرهما- تشفيرًا من "طرف إلى طرف" (E2EE)؛ فلا تتمكن شركة فيسبوك من قراءة محتوياتها. كما جعلت كبرى شركات التكنولوجيا (فيسبوك، وجوجل، وأبل) التشفير جزءًا أساسيًا من منتجاتها، حتى بات ما يقرب من 80% من حركة مرور الويب مشفرًا. وفي مارس/آذار الماضي أعلنت شركة فيسبوك عن نيتها لدمج ذلك النوع من التشفير في تطبيقات المراسلة الأخرى سواء ماسنجر أو أنستقرام. فاقترحت تطبيق "التشفير الشامل" لخدماتها، ما يحافظ على خصوصية مليارات المستخدمين .
الحملة الدولية لمواجهة التشفير
تحاول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا تقويض التشفير -الطريقة الوحيدة الموجودة حاليًا لحماية المعلومات في العالم بشكل موثوق- من خلال الضغط على شركة فيسبوك إما لوقف خططها لتشفير الرسائل على التطبيقات التابعة لها، وإما لفتح المجال لحكومات الدول الثلاث للوصول إلى محتوى الاتصالات الخاصة بالمستخدمين. وقد عارضت الولايات المتحدة وحلفاؤها خطط شركة فيسبوك لتشفير تطبيق الماسنجر، لأنه يعوق جهود مكافحة الإرهاب واستغلال الأطفال.
وهو الأمر الذي ورد في سياق الرسالة المفتوحة التي وجهها كل من وزير الداخلية البريطاني بريتي باتيل، والمدعي العام الأمريكي وليام بار، ووزير الأمن الداخلي بالوكالة كيفن ماكالينان، ووزير الشؤون الداخلية الأسترالي بيتر داتون إلى مارك زوكربيرج في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وفيها ذكرت الدول الثلاث أن فيسبوك أبلغ عن 16,8 مليون حالة تتضمن محتوياتها إساءة جنسية للأطفال. ووفقًا لها، تم اكتشاف تلك الحالات بسبب عدم تشفيرها، ومن شأن ذلك التشفير أن يحول دون اكتشاف 70% منها. وطبقًا لها فلن يمكن حماية الأطفال ومكافحة الإرهاب إذا نفذت فيسبوك مقترحاتها كما هو مزمع. وفي رؤيتها، لم تتمكن شركة فيسبوك من تبديد المخاوف المتزايدة بشأن تداعيات مقترحاتها على حماية المواطنين الأكثر عرضة للخطر.
منذ عام 2013، تم تشفير جزءٍ محدودٍ من حركة المرور على الويب. وفي أعقاب 6 سنوات منذ ذلك الحين، تدعو الدول الثلاث إلى التراجع عن التقدم المُحرَز من خلال إنشاء "باب خلفي" في تطبيقات الرسائل المشفرة، يسمح لأي شخصٍ بالوصول غير المحدود إلى الاتصالات الخاصة. ولذا يصف بعض خبراء أمن المعلومات ذلك المشهد بالأزمة التاريخية الكبرى لأمن الكمبيوتر، فنجاح تلك المساعي من شأنه أن يضعف البنية الأساسية العامة، ويقوض الحياة الخاصة للمستخدمين بشكلٍ دائم.
وفي سياقٍ متصل، طلبت الحكومة الألمانية من شركة فيسبوك في 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري تمكين أجهزتها الأمنية من الدخول إلى المنصة بعد تشفيرها، لأسبابٍ تتعلق بمكافحة الجريمة. فتشاطر وزارة الداخلية الألمانية الدول الثلاث قلقها من خطط فيسبوك لتشفير مختلف تطبيقاته، لأنها تضعف من قدرة السلطات على الكشف عن التهديدات الخطيرة. ولمواجهة ذلك يجب استحداث بابٍ خلفيٍ يضمن وصول الأنظمة الأمنية لرسائل المستخدمين. وقالت وزارة الداخلية في بيانٍ لها: "يجب أن يتم إيجاد حلولٍ تقنيةٍ لكل قضيةٍ على حدة". وأضافت أن إيجاد الحل المناسب هو أولا وقبل كل شيء من مسؤولية الشركة .
الدوافع والمبررات
في سياق متصل، عارضت القمة الوطنية التي عُقدت بوزارة العدل في واشنطن خطة التشفير المقترحة التي تفكر فيسبوك في تطبيقها. وعليه، صرّح النقيب "روجر أنطونيو" (قائد شرطة تشارلستون كاونتي) بإن وسائل التواصل الاجتماعي إحدى أدوات التحقيق في كافة الجرائم، بما في ذلك: سرقة الممتلكات، والاستغلال الجنسي للأطفال، والقتل، والإرهاب، وغيرها. ومن شأن التشفير أن يعرقل جهود إنفاذ القانون، واعتقال الإرهابيين، وحماية الأطفال الذين وقعوا ضحية الصور الإباحية.
ويعد مكتب مقاطعة تشارلستون شريكًا نشطًا في فرقة العمل المعنية بجرائم الإنترنت ضد الأطفال التابعة للمدعي العام الأمريكي. وقد حقق المكتب في ما يزيد عن 60 حالة من تلك الجرائم، وأجرى أكثر من 500 فحصًا طبيًا شرعيًا ذي صلة باستغلال الأطفال في موادٍ إباحيةٍ في النصف الأخير من عام 2018.
ووفقًا له، يَحول التشفير الكامل لحسابات وسائل التواصل الاجتماعي دون استخدام تطبيقات التراسل بما في ذلك ماسنجر وواتساب (التي يستخدمها المعتدون على الأطفال لتبادل الصور ومقاطع الفيديو العارية) في التحقيقات، ومن شأنه أيضًا أن يقوض جهود ICAC (وهي فرقة عمل تابعة لوزارة العدل الأمريكية، وتعنى بالأساس بجرائم الإنترنت ضد الأطفال. وتتمثل أهدافها الرئيسة في تزويد وكالات إنفاذ القانون بالأدوات اللازمة لمنع تلك الجرائم من خلال تشجيع التعاون القضائي، وكذا تثقيف وكلاء إنفاذ القانون والآباء والمعلمين).
وقد صرّح مساعد نائب وزير العدل الأمريكي سوجيت رأمان بأن "المركز الوطني للأطفال المفقودين والمستغلين قد تلقى أكثر من 18 مليون معلومة متصلة بالاستغلال الجنسي للأطفال عبر الإنترنت في العام الماضي، أغلبها بواسطة فيسبوك." وتبعًا له، من شأن 75% من تلك المعلومات أن يصبح مجهولًا إذا مضت شركات التواصل الاجتماعي في خططها للتشفير.
ومن ثمّ، يمكن القول أن الجهود الدولية المعارضة للتشفير الكامل تخشى من بطء التحقيقات الجنائية. وعليه، تضغط على شركات التكنولوجيا الكبرى لضمان سرعة تبادل المعلومات في إطار التحقيقات الجنائية. ووفقًا لها، يُعدّ الاستخدام المتزايد للاتصالات المشفرة من طرف إلى طرف "مشكلة مظلمة"، تحمى المعلومات التي أمكن للأجهزة الأمنية الوصول إليها بكل سهولة في السابق .
اتفاقية دولية لتبادل البيانات
على صعيدٍ آخر، وقع وزير العدل الأمريكي وليام بار ووزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل اتفاقيةً للوصول للبيانات هي الأولى من نوعها في العالم، يتاح بموجبها لوكالات إنفاذ القانون طلب البيانات مباشرة من شركات التكنولوجيا دون المرور بالحكومات، بهدف سرعة النظر في طلبات جهات إنفاذ القانون الموجهة لشركات التكنولوجيا، وتسهيل الحصول على رسائل الإرهابيين والمعتدين على الأطفال، ومن ثم التحقيقات المتعلقة بالإرهاب، وإساءة معاملة الأطفال واستغلالهم، وغيرها. فتقليديًا، يستغرق ذلك الإجراء ما بين ستة أشهر إلى سنتين، ولا يُقدِم عليه سوى الحكومات.
على المستوى العملي، يُمكِّن الاتفاق الثنائي الحكومة البريطانية من طلب البيانات المرتبطة بتحقيقاتها الجنائية الجارية مباشرةً من شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تخزنها عن بعد، بدلًا من جهات إنفاذ القانون الأمريكية، بهدف الضغط على شركات التكنولوجيا الخاصة للإسراع بعملية تبادل المعلومات لأغراض التحقيقات الجنائية.
يُسهّل هذا الاتفاق مَهمة الحصول على الأدلة من شركات التكنولوجيا، ويُسرّع وتيرة التحقيقات إلى حدٍّ كبير، ويعزّز قيم الخصوصية والحريات المدنية، ويبعث برسالةٍ مفتوحةٍ لشركة فيسبوك ورئيسها التنفيذي مارك زوكربيرج، إذ يدعو الشركة إلى تعليق الخطط المتعلقة بتطوير تقنية التشفير في خدماتها.
السياقات والدلالات
واجهت شركة فيسبوك انتقاداتٍ عدة بفعل ثغرات الخصوصية وسوء استغلال البيانات الشخصية. ويعكس اتجاهها لتشفير خدماتها رغبتها في مواجهة تلك الانتقادات. أو بعبارةٍ أخرى، تأتي جهود فيسبوك لتعزيز خصوصية المستخدمين بعد عددٍ من فضائح الخصوصية التي تعرضت لها الشركة في السنوات الأخيرة، وإن كان أبرزها فضيحة كامبريدج أنالاتيكا التي تكبدت على خلفيتها شركة فيسبوك 5 مليارات دولار في تسويةٍ واسعةٍ، أججت الجدل حول ضوابط الخصوصية والرقابة على الشبكة الاجتماعية.
وفي هذا الصدد، يمكن إجمال أبرز الدلالات على النحو التالي:
1- على الرغم من القلق المتزايد والجهود التي تبذلها فرق الأمن السيبراني على جميع مستويات السلامة العامة، فإن الضغوط الدولية تتزايد لإعطاء السلطات والأجهزة الأمنية وسائل وآليات لقراءة الرسائل المشفرة التي يرسلها المستخدمون، ما يعيد إذكاء التوترات بين شركات التكنولوجيا والأجهزة الأمنية.
2- تجدد الجهود الدولية لتقويض التشفير الصراع بين الأمن والخصوصية، فيتوقع خبراء الأمن المعلوماتي خضوع فيسبوك في نهاية المطاف إلى الطلبات الحكومية من أجل الاطلاع على رسائل من يشكلون تهديدًا للأمن القومي. وهو ما يتعارض بشكلٍ أو بآخر مع خصوصية المستخدمين.
3- نجاح الجهود الدولية الرامية لتقويض التشفير يعني انكشاف رسائل المستخدمين ليس فقط للمحققين في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأستراليا، ولكن لوكالات الاستخبارات في الصين، وروسيا، وغيرهما أيضًا، ناهيك بالقراصنة والمتسللين في جميع أنحاء العالم.
4- يرجع السبب الحقيقي لمواقف الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في التخلص من التشفير من طرف إلى طرف بالسلطة أكثر منه بالسلامة العامة .
موقف فيسبوك الرسمي
في مارس/آذار 2019، وعند إعلانه عن خطط الشركة للتشفير، أقر زوكربيرج بأن الخصوصية تشمل "أشخاصًا يقومون بأشياءٍ سيئة". ووفقًا له، تعمل شركة فيسبوك على تطوير طرقٍ أفضل لاكتشاف أنماط السلوك السيئ، دون رؤية محتويات الرسائل.
واتساقًا مع ذلك، رفضت شركة فيسبوك بشكلٍ واضحٍ كل تلك المساعي باعتبارها تهديدا لأمن المستخدمين في جميع أنحاء العالم، ودافعت عن قرارها بتشفير خدمات المراسلة على الرغم من المخاوف التي أثيرت حول تداعياتها على استغلال الأطفال والأنشطة الإجرامية الأخرى. وأكدت وعيها التام بمخاطر استغلال الأطفال التي كانت همها الأكبر أثناء دراسة ذلك القرار، وتعهدت بخطواتٍ جادة لتقليل الضرر.
وصرح جو أوزبورن (المتحدث الرسمي باسم الشركة) في بيانٍ له: "نحن نعارض وبشدة محاولات الحكومات لفتح قنواتٍ خلفيةٍ، لأنها ستقوض خصوصية وأمن المستخدمين." وأضاف: "يحق للناس إجراء محادثاتٍ خاصة عبر الإنترنت، أينما كانوا. وأكدت التصريحات اتجاه الشركة لزيادة الأمن والخصوصية على تطبيقات المراسلة، والتشاور مع خبراء سلامة الأطفال والحكومات وشركات التكنولوجيا لتكريس فرقٍ تكنولوجية جديدة متطورة، تحفظ أمن المستخدمين.
وختامًا، أصبحت شركة فيسبوك -التي واجهت اتهاماتٍ وفضائح بسبب تسريب بيانات المستخدمين وإساءة استخدامها وفقدانها- خط الدفاع الأخير في معركة الدفاع عن تلك البيانات والخصوصية. فعلى الرغم من وجاهة أطروحات مكافحة الإرهاب وحماية الأطفال فإن الوصول لبيانات المستخدمين لن يقتصر بطبيعة الحال على الدول، وسيمتد بدوره إلى القراصنة والتنظيمات الإرهابية ليخلق بدوره إشكالياتٍ جديدة قد يصعب التصدي لها.
aXA6IDMuMTI5LjYzLjI1MiA= جزيرة ام اند امز