أردوغان يجد في هجوم القوات النظامية السورية بغطاء ودعم روسي متنفساً للتملص من تعهداته لمرتزقته من الإرهابيين في إدلب
التحولات الميدانية الجارية في إدلب تطرح أسئلةً كثيرة حول مآلات الأوضاع في تلك البقعة الجغرافية التي تعتبر آخر معقل من معاقل المسلحين في سوريا؛ لماذا يتم تجاهل تفاهمات آستانة بين موسكو وأنقرة بشأن إدلب؟ ألم تكن تلك المنطقة من ضمن اتفاقات خفض التصعيد بين الجانبين؟ أين تعهدات أردوغان بحماية إرهابيي جبهة النصرة الموجودين في إدلب؛ السوريين منهم والأجانب الذين آواهم ودرّبهم وسلّحهم، أم أن دورهم في حساباته قد انتهى؟ هل يمكن لموسكو أن تدعم وتغطي هجوم القوات السورية النظامية على معاقل مريدي أردوغان لو لم يكن ثمة تفاهم بين الطرفين على ذلك؟ ما الثمن الذي قبضه وسيقبضه أردوغان، كما جرت العادة، مقابل تغاضيه عما يحدث؟ كيف ستكون النهايات لتلك المدينة؟ وما مصير إرهابيي النصرة ومرتزقة أردوغان؟
موسكو بعد أن بلورت معادلة دقيقة ومحكمة للتوازن بين المصالح المشتركة والتباينات مع أنقرة في الملف السوري، لم تتردد في إعلانها المتكرر بوجوب استئصال الإرهاب من إدلب.
عديدة هي السيناريوهات المتداولة بشأن محافظة إدلب السورية ومصيرها، وجميعها مرتبط بواقعها القائم حاليا من جانب، وبتناقضات وتفاهمات ومصالح راعيي أستانة، روسيا وتركيا، من جانب آخر .
شكلت إدلب ذات يوم عنواناً لتجمع المسلحين على اختلاف أيديولوجياتهم وخلفياتهم الذين يخرجون من معاقلهم في جميع المحافظات السورية تحت وطأة العمليات القتالية والمعارك العنيفة في سياق معادلة بدت أحيانا مثيرة للاستغراب؛ طرفها الأول تحقيق أهداف دمشق وداعمها الروسي بتبريد جبهات القتال واحدة تلو الأخرى، وتقليص ساحات المواجهة بين القوات النظامية وبين الفصائل المسلحة على امتداد البلاد المستعرة حروبها.
أما طرفها الثاني فبرز فيه بعدان؛ الأول الضمانة الروسية لجميع المسلحين بإخراجهم وإيصالهم إلى محافظة إدلب بناء على شروط اتفاق واضح يحفظ سلامتهم وذويهم وبحوزتهم سلاحهم الخفيف، والبعد الآخر تجلى برعاية تركيا للمسلحين الوافدين إلى تخوم حدودها الجنوبية المحاذية للشمال السوري وتحديدا في إدلب.
بقيت المدينة ترزح تحت تقلبات وصراعات الفصائل المسلحة الوافدة من مختلف الديار السورية إلى أن استقرت السيطرة عليها لهيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقا، ذراع تنظيم القاعدة في بلاد الشام، وهي مصنفة دوليا كمنظمة إرهابية، ومع أن أنقرة كانت من أوائل الدول الموافقة على تصنيفها بالإرهابية إلا أنها احتضنتها واتخذتها ذراعا وأداة لتحقيق أهدافها على مستويات كثيرة؛ فهي أداة ابتزاز بيدها لبقية الفصائل المسلحة السورية التي أصبحت تحت عباءتها في الشمال السوري، وهو ما حدث فعليا، وهي ورقة مساومة ومقايضة مهمة بيد أردوغان في مواجهة شريكيه في أستانة، روسيا وايران، وتحقق له ذلك طيلة الفترة السابقة، ولا يغيب عن المشهد أيضا استغلال أنقرة "لهيئة تحرير الشام" وتوظيفها في استنزاف القوات النظامية السورية في جبهات المواجهة بدءاً من ريف حلب الشمالي مروراً بجبهات إدلب وصولاً إلى ريفي حماة واللاذقية شمالاً كما هو حاصل حاليا.
ليس من شك في أن إيقاع الدبلوماسية الروسية واستراتيجيتها في إدارة الملف السوري عسكريا وميدانيا وسياسيا منذ انخراطها رسميا فيه في شهر أيلول سبتمبر/أيلول عام 2015 رسم خطاً بيانياً تصاعدياً لمصلحة موسكو ودمشق في غير مكان وغير ساحة مواجهة.
فتارة تعطي روسيا في ساحة بعينها، ما تراه أقل تكلفة، لتأخذ مقابلها في موقع آخر، وعلى هذه القاعدة يمكن فهم موافقة بوتين، أو على الأقل عدم رفضه لعملية نبع السلام التركية التي شنها جيش أردوغان واحتل خلالها مناطق في الشمال السوري تحت عنوان المنطقة الآمنة.
المعارك في إدلب ومحيطها يتواجه فيها الإرهابيون من هيئة تحرير الشام وحلفائهم من جهة، والقوات النظامية السورية من جهة ثانية، ويدفع المدنيون من أبناء المدينة ومن اللاجئين إليها من بقية المدن السورية ثمناً كبيراً جراء المواجهات العنيفة هناك.
لكن لا يخفى على ذي بال أن المعركة في سياقاتها المتعددة تدور بين رعاة الطرفين، أي موسكو وأنقرة بشكل ضمني، وكل راع منهما مدفوع بحسابات ومصالح خاصة به، قد تلتقي بعضها في زاوية، لكنها تتباين وتتناقض في زاوية أخرى.
فروسيا-بوتين، تسعى لتحقيق غاياتها في سوريا كلاعب وحيد على أرضها بعد أن وطدت وجودها عسكريا وسياسيا على المدى البعيد، وهذا يقتضي استمرارها في العمل عسكريا وسياسيا لإنهاء جميع أشكال الوجود المسلح المناهض لدمشق على جميع الأراضي السورية، لتتمكن موسكو بعد ذلك من الاستدارة لمواجهة ومعالجة التحديات الناشئة عن وجود القوى الدولية الأخرى على الأرض السورية وتبعات تسع سنوات من الحرب والصراع بما يضمن لها التفرد في القرارات المتعلقة بسوريا.
تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي يقتضي من روسيا أيضاً تقديم تنازلات على المستوى التكتيكي مراعاة لمصالح بعض منافسيها، وكذلك شركاؤها وتحديداً أنقرة وطمأنة هواجسها المتعلقة بأمنها القومي، بحيث تمكنت روسيا من جعل الملف السوري عنصراً من عناصر تكريس التفاهم مع تركيا بدل أن يكون مادة صراع وتنافس معها، خاصة أن علاقات الطرفين انتقلت إلى مراحل ومحطات تنسيق وعمل مشترك ثنائياً وإقليمياً ودولياً.
أما تركيا-أردوغان فتجد في نهج وسياسة شريكتها روسيا-بوتين، عدة أوراق للاستثمار، فأردوغان يجد في هجوم القوات النظامية السورية بغطاء ودعم روسي متنفساً للتملص من تعهداته لمرتزقته من الإرهابيين في إدلب وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم تدريجياً، ويمنحه هامش مناورة للظهور أمام المجتمع الدولي بأنه لا يغطي وجود الإرهابيين هناك، ويتحلل لاحقاً من أعباء احتضانهم أو عودتهم إلى رعايته، كما أنه يعطي أردوغان فرصة وضعهم كورقة على طاولة المقايضة مقابل مكاسب أخرى قد تتحقق له عبر البوابة الروسية في بعض ملفات المنطقة، إضافة إلى جعله أكثر مرونة في تنفيذ تفاهماته مع الروس بشأن فتح الطرق الدولية بين العاصمة دمشق وشمال البلاد.
موسكو بعد أن بلورت معادلة دقيقة ومحكمة للتوازن بين المصالح المشتركة والتباينات مع أنقرة في الملف السوري، لم تتردد في إعلانها المتكرر بوجوب استئصال الإرهاب من إدلب على قاعدة أن المصالح السياسية العليا تتقدم على سواها في علاقات البلدين ومنها بعض جوانب العملية السياسية المتعلقة بمستقبل سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة