"مافي مرمرة".. دماء تفضح العلاقة "الآثمة" بين أردوغان وإسرائيل
قصة الود الخفي بين أردوغان وتل أبيب طويلة ومتشعبة، غامضة ومفضوحة في آن، غارقة بين مد المصالح الشخصية
يهاجم إسرائيل على الملأ، ويشحن خطاباته بشعارات رنانة وجوفاء إيهاما بنصرة القضية الفلسطينية، قبل أن يسارع في الخفاء إلى الارتماء في أحضان تل أبيب، مستجديا على أعتابها اتفاقيات اقتصادية تنتشل حكمه المتهاوي.
هي ذات المفارقة التي باتت تشكل هوية سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذات النشاز القاتل المخيم على خطاباته، ونفس التضارب الصارخ بين القول والفعل، فيتاجر بآلام الفلسطينيين، ثم يهرع طالبا التطبيع مع إسرائيل، حفاظا على مصالحه الاقتصادية.
قصة الود الخفي بين أردوغان وتل أبيب طويلة ومتشعبة، غامضة ومفضوحة في آن، غارقة بين مد المصالح الشخصية وجزر أوهام ما يمكن أن تفتحه من آفاق نحو الحصول على رضا واشنطن.
فضيحة «مافي مرمرة»
«دكتاتور أنقرة» كما تسميه المعارضة التركية لم يكف يوما عن الصراخ باسم حقوق الفلسطينيين، وحقهم في إقامة دولتهم، ولكنه أيضا لا يتوانى عن عقد صفقات واتفاقيات مشبوهة تدمر حق هذا الشعب، بل تمس وتنتهك حقوق وكرامة شعبه، وهذا ما كشفه تعامله مع قتل إسرائيل 10 من مواطنيه في 2010.
فإبان تلك المجزرة التي جاءت عقب هجوم إسرائيلي بالرصاص على سفينة «مافي مرمرة» خرج أردوغان على شعبه متوعدا بالانتقام، محاولا تصدير نفسه للمسلمين في بلاده وخارجها على أنه المدافع الأول عن القضية الفلسطينية، لكن سرعان ما خفت وهج تلك الشعارات، لتنحسر الأضواء وتنكشف في العتمة الحقائق الصادمة.
الهجوم كان غاشما بالفعل، فلقد أودى بحياة 9 ناشطين أتراك وأمريكيا يحمل الجنسية التركية، إضافة إلى إصابة العشرات في هجوم بالرصاص استهدف السفينة التي كانت ضمن «أسطول الحرية»، والأخيرة كانت تضم مساعدات إنسانية، ومتوجهة إلى غزة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ سيطرة «حماس» عليه بقوة السلاح في 2006.
حادثة دامية كاد يعتقد العالم أن أردوغان لن يتوانى في الرد بقوة عليها، بل إن موجة الغضب التي أظهرها في البداية منحت انطباعا جازما بأن رد الرجل لن يكون أقل من التهديد بإعلان الحرب، خصوصا في ظل الإدانة الدولية الواسعة للحادثة.
ولأيام، انتظر العالم ردا قويا وتحركا من أنقرة على الأرض للثأر لضحاياها، لكن ما حدث هو أن الأخيرة افتعلت إشكالا مع الأكراد، وعوض توجيه سلاحها للمحتل الذي قتل رعاياها استهدفت الأكراد من جديد، في تفاعل غريب وصادم اكتفى أردوغان بتبريره بعد أشهر، وتحديدا في سبتمبر/أيلول 2011، حين قال إن حكومته فضلت التروي على شن حرب متسرعة ضد إسرائيل.
قبض الثمن
إسرائيل من جانبها، كانت تدرك تماما أن الجلبة التي يحدثها أردوغان لا تعدو أن تكون سوى زوبعة في فنجان، وفصلا من فصول مسرحياته الموجهة لشعبه وللعالم العربي.
وأياما قليلة على ذلك، أعاد أردوغان علاقاته مع تل أبيب، بعد موافقته على تعويض بنحو 21 مليون دولار، ليقبض بذلك ثمن دماء مواطنيه تحت الطاولة، ثم يطل من جديد مدافعا عن القضية الفلسطينية، مروجا لنفسه على أنه الحاكم المتزن الذي لا يتوانى عن انتقاد إسرائيل بشكل لاذع، لكنه لا يخوض في الآن نفسه حربا ستكلفه أضعاف ما فقد في حادثة السفينة.
مصالح على جثث الضحايا
تدابير استعراضية لذر الرماد في العيون لم تصمد طويلا أمام حقيقة العلاقات الثنائية، فبعد 6 أشهر فقط من الحادثة أرسلت أنقرة طائرات لمساعدة تل أبيب في إطفاء حرائق نشبت شمالي الأراضي المحتلة.
بعدها، بدأت المباحثات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأردوغان للاتفاق على التعويضات، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وفي الأثناء كانت الشاحنات التركية المحملة بالبضائع تتخذ من الأراضي المحتلة ممرا لها إلى جسر الشيخ حسين ومنه إلى الأردن، وفق إعلام عبري.
علاقات لم يشبها أي توتر فعلي، وهذا ما فضحته الأرقام الرسمية لحجم التجارة التركية الإسرائيلية، والتي بلغت في 2013 نحو 2.3 مليار دولار بعنوان صادرات أنقرة إلى تل أبيب، مقابل 2.5 مليار دولار صادرات إسرائيلية إلى تركيا، في بيانات سجلت ارتفاعا لاحقا.
وبهذا، وقع أردوغان تنازله التام عن حقوق الضحايا وأسرهم، مغلقا ملف «مافي مرمرة» بشكل نهائي، فيما أخفى على شعبه حقيقة الاتفاقيات السرية المبرمة بهذا الخصوص مع إسرائيل.
لقاءات سرية
بالتزامن مع تلك الاتفاقيات، ذكرت صحف تركية معارضة، في يونيو/حزيران 2016، أن رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين زار أنقرة قبل 10 أيام، والتقى نظيره التركي هاكان فيدان، وبحثا الشق المتعلق بعلاقة تركيا بحركة «حماس».
وعقب الزيارة، كان لا بد أن ترد إسرائيل لأنقرة «جميل» تنازلها عن حقوقها في حادثة مقتل مواطنيها، لتتنازل بدورها عن شرط ومطلب طرد قادة حماس من تركيا، بمن فيهم القيادي بالحركة صالح العاروري الذي اتخذ من تركيا مقر إقامة له.
«حماس» أو البوابة الإخوانية التي فرشت لأردوغان السجاد للمتاجرة بقضية غزة، هي ما يعتمد عليها أردوغان من أجل تحويل التعاطف الشعبي التركي التقليدي مع الفلسطينيين بشكل عام إلى تعاطف مع الحركة فقط، في إطار دعمه للإخوان، واستغلالهم للحصول على موطئ قدم ببلدان فروع الجماعة.
ومنذ 2006، أي تاريخ انقلاب حماس على السلطة في غزة، عمل أردوغان على توطيد علاقاته بقادة الحركة الإرهابية، لتتشكل منذ ذلك الحين معالم تحالف إخواني لم تتأخر نتائجه في التبلور سريعا على أحوال سكان القطاع.
عملت أنقرة على استضافة قادة حماس، ومنحتهم إقامات في فنادق ومقرات إقامة فخمة بإسطنبول وغيرها، بعيدا عن لهيب الحياة في غزة، لكن أخطر ما في العلاقة بين الجانبين يظل استغلال حجة المساعدات الإنسانية في إرسال أموال إلى قادة الحركة، ليستخدموها في قمع شعب مثقل بنكبات الاحتلال.