فيروز تودّع زياد الرحباني: صمت الأم يعلو على كل الألحان

في لحظة خيم عليها الحزن واختلط فيها التاريخ بالمأساة، أطلت السيدة فيروز على جمهورها بعد غياب طويل، لتودع نجلها زياد الرحباني، في مشهد إنساني نادر ومؤلم، خطف أنظار اللبنانيين والعالم العربي.
الظهور العلني الأول منذ سنوات للسيدة التي طالما غنت للحب والحنين، جاء صامتًا، متشحًا بالسواد، لا تصحبه موسيقى، بل تسكنه المهابة.
وقفت "جارة القمر" بين المعزين، بصمت ثقيل ونظرات غائرة خلف نظارتها الداكنة، تحمل وجع الأم وقلب الفنانة التي تودع الابن الأقرب إلى عالمها، شريك التجربة، وامتداد الرحبانيين في التجريب والاختلاف.
علاقة تتجاوز الأمومة.. بين فيروز وزياد
لم تكن علاقة فيروز بابنها زياد مجرد صلة دم، بل التقاء بين مدرستين فنيتين مستقلتين. منذ ظهوره الفني في سبعينيات القرن الماضي، سعى زياد الرحباني لكسر النمط الرحباني، مقدمًا لحنًا مختلفًا ومسرحًا ساخرًا وصوتًا ناقدًا للواقع، لكنه ظل يختار صوت فيروز ليوصل من خلاله أكثر أفكاره عمقًا، وأكثرها وجعًا.
قدّم لها مجموعة من أبرز أغنياتها الحديثة، مثل "كيفك إنت"، و"أنا عندي حنين"، و"ولا كيف"، حافظ فيها على بريق صوتها، وأضاف له نكهة من الحزن المعاصر، مجسدًا صورة فيروز التي تغني للناس البسطاء، وللمدن المتعبة، وللقضايا التي تُقال حين لا تُقال.
ورغم ما أثير من توترات بينهما عبر الإعلام، بقيت العلاقة بين فيروز وزياد عصية على التصنيف، لا تخضع لتقلبات التصريحات، بل يحكمها مسار طويل من الحب، والاختلاف، والانتماء لفن لا يتكرر.
وُلدت نهاد حداد، التي عرفها الناس لاحقًا باسم فيروز، عام 1935 في أحد أحياء بيروت الشعبية. لم يكن في بيتها مذياع، لكن صوتها كان سابقًا لكل التقنيات. اكتشفها الموسيقي محمد فليفل، وشجعها على دخول الإذاعة اللبنانية، ومنها انطلقت إلى المعهد الوطني للموسيقى، قبل أن تلتقي بعاصي الرحباني الذي شكّل معها ثنائيًا غيّر وجه الأغنية العربية.
على مدى عقود، غنت فيروز للحب والوطن، للقدس وبيروت، للناس وللأمل. لم تتورط في اصطفاف سياسي، بل شكّلت استثناءً يلتف حوله الجميع. وفي زمن الحروب، بقي صوتها رابطًا خفيًا بين اللبنانيين، رمزًا لوحدة مستحيلة، ونغمة لا تشيخ.
إرث لا يُنسى.. صوت لا يرحل
قدّمت فيروز أكثر من 800 أغنية، و36 ألبومًا، و3 أفلام، وشاركت في نحو 15 مسرحية غنائية، كان فيها الصوت بطلًا للمشهد.
وبعد رحيل عاصي، انسحبت فترة ثم عادت بألحان زياد، تؤكد أن التجديد لا يلغي الأصالة.
اليوم، يرحل زياد، ويبقى صوت فيروز صامدًا، لكن الحزن في وداعه أعاد التذكير بأن الفنانين الكبار لا يغادرون بصمت، بل يُخلّدهم أثرهم.
وقوفها في الجنازة كان الظهور الأكثر بلاغة، حيث غاب الغناء، وحضرت الأسطورة كأم، مكلومة، مهيبة، تهزّ صمت المكان دون أن تنبس بكلمة.
هي اللحظة التي صمت فيها الجميع، ليبقى الحزن نغمة خافتة، لا تفارق الذاكرة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTg5IA==
جزيرة ام اند امز