تعود بي الذاكرة في هذه الساعات الحزينة إلى الثاني من نوفمبر 2004 يوم وفاة الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه،
يومها كان العالم يتطلع إلى التحدي الذي سيواجه من يخلف الشيخ زايد في الحكم، وهو القائد الذي أسس وبنى مجد الإمارات، وحقق ما يشبه الإعجاز بتأسيس دولة الاتحاد وسط تحديات سياسية واقتصادية كبيرة، وذاع صيته كقائد حكيم ومحنك بنى نموذجاً فريداً لدولة بات يشار إليها بالبنان.
كان المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، هو ذلك القائد الذي اختاره أصحاب السمو حكام الإمارات ليتابع مسيرة الوالد المؤسس، فشمّر عن ساعديه، واضعاً نصب عينيه نهج زايد، وهو الذي تربى في مدرسته منذ كان طفلاً، ونهل من حكمته وخبرته في القيادة، واضطلع بمهام كثيرة من خلال المناصب التنفيذية التي تقلدها منذ كان في الثامنة عشرة من عمره.
لقد أدرك المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، منذ الثالث من نوفمبر 2004 أنه لا يكفي أن يحقق الانتقال السلس للسلطة في الدولة الاتحادية، وأن عليه وضع عناوين جديدة لمرحلة «ما بعد التأسيس»، من أجل احتواء الطاقات الوطنية المتحفزة واستيعابها حتى تكون قادرة على خوض تحدٍّ جديد وفق خطط نوعية جديدة، تتماشى مع طبيعة المرحلة والقيادة الجديدة للبلاد. ومن هنا أطلق الشيخ خليفة، رحمه الله، «مرحلة التمكين» لاستنهاض الهمم وتحفيز مؤسسات الإمارات وشعبها للاستمرار في مسيرة البناء وتحقيق إنجاز تنموي جديد، يفجر بدوره مزيداً من الثقة في الذات الوطنية وقدرتها على سبر أغوار المستحيل.
إن أهم ما يتميز القادة العظام، هو قدرتهم على إطلاق طاقات شعوبهم، فضلاً عن خصال وشمائل وفضائل تمثل محوراً لحياتهم وتاريخهم السياسي، وتفسر قدراً كبيراً من سجاياهم الإنسانية النبيلة، وسجلهم الناصع في صناعة التنمية والبناء وإعمار الأوطان، وكان المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، واحداً من هؤلاء القادة، إذ استطاع خلال قيادته التاريخية الفذة لوطنه أن يغرس في نفوس مواطنيه روح التحدي والإصرار والنجاح والمثابرة، وأن يُطلق حماستهم وإمكاناتهم للمساهمة في تنفيذ رؤيته الشاملة الخاصة بتمكين الوطن والمواطن، وينشر حوله عدداً كبيراً من القادة الفعّالين في مجالاتٍ متنوعة.
لقد أكد المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، منذ تسلمه مقاليد الحكم وفي أكثر من مناسبة «أنّ آمالنا لدولتنا لا سقف لها، وطموحاتنا لمواطنينا لا تحدها حدود». وهكذا ما لبثت فكرة «التمكين» أن انطلقت ولمعت كالشهب في عنان السماء، وألهبت حماسة شعبه، وأسهمت في إعادة اكتشاف قدرات المواطنين وإمكانياتهم ليستكملوا مسيرة بناء دولة الاتحاد التي انطلقت في الثاني من ديسمبر عام 1971.
لقد طرحت استراتيجية التمكين، التي أطلقها المغفور له، مقاربات ومداخل وبدائل تنموية مبتكرة، أسهمت جميعها في إلهام المواطنين وشحذ هممهم للنهوض بوطنهم والارتقاء به إلى مصاف الدول المتقدمة، كما أطلق خلال الاحتفال باليوم الوطني الأربعين عام 2011 قائلاً «إن تمكين المواطن هو مشروعنا للعشرية الاتحادية الخامسة، مشروع نؤسس به لانطلاقة وطنية أكبر قوةً وثقةً، مشروع مرتكزاته إنسانٌ فاعل معتز بهويته، وأسرة متماسكة مستقرة، ومجتمع حيوي متلاحم يسوده الأمن والعدل، يعلي قيم التطوع والمبادرة، ونظام تعليمي حديث متقدم، وخدمات صحية متطورة، واقتصاد مستدام متنوع قائم على المعرفة، وبنية تحتية متكاملة، وبيئة مستدامة، وموارد طبيعية مصونة، ومكانة عالمية متميزة».
وخلال احتفال دولة الإمارات بيوبيلها الفضي، واصل المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، رحمه الله، دفع مسيرة التنمية في الدولة بإطلاق وثيقة مبادئ الخمسين التي رسمت المسار الاستراتيجي للدولة في دورتها التنموية القادمة في المجالات السياسية والاقتصادية والتنموية الداخلية.
إنه لمن الصعب علينا، ونحن نعيش هذه اللحظات المؤثرة، أن نسرد كل ما قدمه الوالد الراحل الشيخ خليفة، فذلك موضع يحتاج إلى مجلدات كثيرة، وحسبنا اليوم أن نترحم على هذا القائد الفذ الذي ترك بصمات خالدة في تاريخ دولة الإمارات، وامتدت أياديه البيضاء إلى مختلف بقاع العالم، فلهج الجميع بالثناء عليه وعلى خصاله الحميدة.
وإن مما يبعث السكينة والطمأنينة في النفس، ويخفف من مصابنا في هذه الساعات التي تتشح الإمارات فيها بالحزن على فقد قائدها الكبير، أننا واثقون بأننا سنكون في أيدٍ أمينة بوجود صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظهما الله، واللذين نتوجه إليهما بصادق العزاء والمواساة، مجددين لهما الطاعة والولاء، سائلين المولى، عز وجل، أن يلهمهما الصبر والسلوان، ويأخذ بأيديهما لما فيه خير الإمارات وشعبها.
رحم الله الوالد الشيخ خليفة، وجمعه ووالده الشيخ زايد في جنات النعيم، وحفظ الله الإمارات وأدام عليها وعلى شعبها وساكنيها نعمة الأمن والاستقرار. إنا لله وإنا إليه راجعون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة