«الملاح الخلفي».. «المدير الفعلي» للمعارك الجوية
على عكس الصورة السينمائية الشائعة، كما في فيلم "توب غان" حيث يبدو «غوس» مجرد رفيق ثانوي للطيار «مافريك»، يثبت الواقع العسكري أن الملاح الجالس في المقعد الخلفي عنصر لا يقل أهمية عن الطيار نفسه، بل يُعد شريكاً كاملاً في اتخاذ القرار وتنفيذ العمليات القتالية
ووفقا لتقرير مجلة "ناشيونال إنترست"، صُممت الطائرات المقاتلة الثنائية المقعد، مثل "إف-14" و"إف-15 إي" و"إف/إيه-18 إف"، منذ البداية على أساس توزيع الأدوار، وليس إضافة شخص ثانٍ بلا وظيفة.
فالملاح الخلفي ليس راكباً إضافياً ولا تابعاً للطيار، بل يتحمل مسؤوليات مباشرة تؤثر في نجاح المهمة أو فشلها، من خلال سيطرته على الأسلحة، وتحليله للمجال القتالي، وإدارته للأنظمة الإلكترونية المعقدة التي لم يعد من الممكن لشخص واحد التعامل معها بمفرده.
ويرجع ظهور هذا التقسيم الوظيفي إلى ستينيات القرن الماضي، حين بدأت أنظمة الرادار والملاحة والاتصال تزداد تعقيداً وحجماً، وكانت تعتمد على تقنيات تناظرية تتطلب جهداً بشرياً كبيراً.
عندها أصبح من المستحيل عملياً أن يجمع الطيار بين قيادة الطائرة والتحكم الكامل في هذه الأنظمة. ومن هنا، صُممت طائرات مثل "إف-4" و"إف-14" وفق مبدأ الفصل بين القيادة القتالية والإدارة التقنية، بحيث يركز الطيار على الطيران والمناورة، بينما يتولى ضابط الاعتراض الراداري أو ضابط أنظمة التسليح إدارة «عقل» الطائرة القتالي.
وعلى الرغم من التقدم الهائل في واجهات التحكم ودمج الإنسان مع الآلة، أبقى تعقيد المهام الحديثة على أهمية المقعد الخلفي، بل زادها.
وفي ساحات القتال الجوية المعاصرة، يقود الطيار الطائرة فعلياً، لكن الملاح الخلفي هو من «يخوض المعركة»، فهو المسؤول الأول عن تشغيل أوضاع الرادار المختلفة، وتتبع عدة أهداف في آن واحد، وإدارة المستشعرات الحرارية والبصرية، وبناء صورة متكاملة لساحة المعركة.
وعند الانتقال إلى استخدام السلاح، يكون هو من يختار نوع الذخيرة، ويحدد الهدف، ويشرف على التوجيه، سواء عبر الليزر أو برمجة الذخائر الموجهة بالأقمار الصناعية. وبذلك، فإن أكثر وظائف الطائرة فتكاً وتأثيراً تكون في كثير من الأحيان تحت سيطرة الملاح الخلفي.
ومع تحوّل الحروب الحديثة بشكل متزايد إلى المجال الإلكتروني، تعاظم دور الملاح الخلفي أكثر فأكثر. إذ تقع على عاتقه مهام اكتشاف رادارات العدو، وتحليل إشاراتها، وتشويشها عند الضرورة، إضافة إلى إدارة وسائل الحماية الذاتية للطائرة مثل الشعلات الحرارية، والرقائق المعدنية، والطُعوم المجرورة.
وباختصار، فإن منظومة الحرب الإلكترونية بأكملها تُدار من المقعد الخلفي، ما يجعل هذا الدور حاسماً في بقاء الطائرة ونجاحها في بيئة معادية كثيفة التهديدات.
ولا يقتصر دور الملاح الخلفي على القتال المباشر، بل يشمل أيضاً إدارة الملاحة والتخطيط الزمني والوقودي، وتنسيق عمليات التزود بالوقود جواً، وضمان تزامن الطائرة مع باقي عناصر التشكيل الجوي أو الضربة المركبة.
كما يتولى قيادة شبكة الاتصالات، فيتعامل مع أجهزة الراديو متعددة النطاقات، ويتواصل مع طائرات الإنذار المبكر، وطائرات التزويد بالوقود، والوحدات الجوية والبرية المشتركة، إضافة إلى إدارة أنظمة تبادل البيانات التكتيكية مثل لينك-16.
وبهذا المعنى، يكون الملاح الخلفي هو «مدير المعركة» داخل الطائرة، محتفظاً بالصورة الشاملة، بينما ينصب تركيز الطيار على القيادة والمناورة.
وتكمن القيمة الكبرى لوجود الملاح الخلفي في إتاحة تقسيم الأعباء داخل قمرة القيادة، خاصة في بيئات القتال عالية الضغط، فهذا التقسيم يسمح للطيار بالتركيز الكامل على الطيران وإدارة الطاقة والمناورة، في حين يتولى شريكه تحليل التهديدات واتخاذ القرارات التكتيكية. كما يعزز ذلك من فرص النجاة، لأن أحد أفراد الطاقم يكون دائماً في وضع مراقبة شاملة.
ويكتسب هذا الأمر أهمية إضافية في المهام طويلة المدى، خصوصاً مع التوجه الأمريكي المتزايد نحو مسارح عمليات واسعة مثل المحيطين الهندي والهادئ، حيث يمكن تبادل الأدوار أو إتاحة فترات راحة نسبية أثناء الطيران.
ومع ذلك، فإن وجود شخص ثان في قمرة القيادة لا يخلو من كلفة، فتصميم الطائرة يصبح أثقل وأكثر تعقيداً، وتتأثر سعة الوقود والحمولة، وترتفع تكاليف التشغيل والصيانة. كما أن القمرة الثنائية تُصعّب تحقيق متطلبات الشبحية، وهو عامل حساس في صراعات محتملة بين قوى كبرى متكافئة.
يضاف إلى ذلك عبء التدريب المضاعف، إذ يتطلب الأمر إعداد طيارين وملاحين على حد سواء، وبناء تناغم كامل بين شخصين يجب أن يعملا كوحدة واحدة في ظروف بالغة القسوة.