فرنسا والمحيط الهندي.. «ملاذ مفخخ» لترميم شرخ أفريقيا

بوصلة فرنسا تتجه إلى المحيط الهندي أملا في ترميم «صدع» أفريقيا، لكن حتى هذا الملاذ يبدو «مفخخا» بألغام استعمارية لم تفكك بعد.
هذا ما يراه خبراء فرنسيون في أبعاد زيارة إيمانويل ماكرون لمدغشقر، معتبرين أنها تهدف إلى تعزيز الحضور الفرنسي في المحيط الهندي، وسط تزايد التنافس الدولي على هذه المنطقة الاستراتيجية.
لكن في الأثناء، تُعيد مطالب الجزيرة وجزر القمر بشأن الأراضي المتنازع عليها فتح ملفات استعمارية حساسة قد تُربك الحسابات الفرنسية.
ففي خضمّ تحركاته الدبلوماسية شرق أفريقيا، وبعد محطتي مايوت وريونيون (أقاليم فرنسية ما وراء البحار)، حط الرئيس الفرنسي رحاله، الأربعاء والخميس الماضيين، في العاصمة الملغاشية أنتاناناريفو.
وبحسب خبراء، في قراءات منفصلة لـ«العين الإخبارية»، فإن الزيارة تحمل طموحات اقتصادية وسيادية، لكنها تصطدم بمطالب قديمة تعود لعقود من الزمن، تتعلق بجزر متنازع عليها لا تزال باريس تحتفظ بها منذ فترة الاستعمار.
ورغم أن ماكرون يشارك في قمة اللجنة المعنية بالمحيط الهندي التي تضم فرنسا (عبر ريونيون) إلى جانب جزر القمر ومدغشقر وموريشيوس وسيشل، فإن الموضوعات الرسمية كالأمن الغذائي ليست سوى قشرة تغطي توترات أعمق تتعلق بالسيادة على الجزر، وأبرزها أرخبيل "إيبارس" المتنازع عليه مع مدغشقر.
«ترميم نفوذ»
في هذا السياق، يقول الباحث السياسي الفرنسي لوك مارتينييه، المختص في شؤون أفريقيا والتابع لـ«المعهد الفرنسي للأبحاث الدولية»، إن «ماكرون يُحاول ترميم نفوذ فرنسا المنكسر في أفريقيا من خلال التوجه نحو المستعمرات السابقة بالمحيط الهندي».
ويضيف مارتينييه، في حديث لـ«العين الإخبارية»: «لكن الملفات التاريخية العالقة، كالسيادة على جزر إيبارس، تعرقل هذا المسار وتُهدد بتحويل التعاون إلى نزاع دبلوماسي صامت".
وتُعد جزر إيبارس -وهي مجموعة جزر صغيرة تقع في قناة موزمبيق بين مدغشقر والموزمبيق- من أبرز نقاط التوتر بين باريس وأنتاناناريفو.
فمنذ استقلال مدغشقر عام 1960، بقيت هذه الجزر تحت السيادة الفرنسية، رغم مطالبات متكررة من الحكومة الملغاشية بإعادتها، وهو ما اعتبره الرئيس أندري راجويلينا «جزءاً لا يتجزأ من استكمال عملية إنهاء الاستعمار».
موارد نفطية وأبعاد سيادية
من جهتها، ترى الباحثة السياسية الفرنسية كريستيان رافيديناريفو، وهي أستاذة مشاركة في مركز البحوث السياسية التابع لجامعة العلوم السياسية بباريس، أن «أهمية جزر إيبارس تجاوزت الرمزية التاريخية، لتصبح مسألة ذات أبعاد اقتصادية واستراتيجية».
وتوضح رافيديناريفو أن «هذه الجزر تمنح فرنسا امتيازاً ضخماً عبر المنطقة الاقتصادية الحصرية التي تمتد إلى 640 ألف كيلومتر مربع في قناة موزمبيق، وهي منطقة غنية بالغاز الطبيعي، تضاهي احتياطياتها تلك الموجودة في الخليج أو بحر الشمال».
وتُضيف أن «الاجتماع المرتقب للجنة الفرنسية الملغاشية المشتركة في 30 يونيو/حزيران المقبل -سيكون الأول منذ عام 2019- يمثل اختباراً جدياً لإمكانية تجاوز الخلافات التاريخية، وربما التوصل إلى صيغة تعاون حول استغلال الموارد، دون المساس بالمطالب السيادية لكل طرف».
ورغم صدور قرار من الأمم المتحدة عام 1979 يدعو فرنسا لإعادة الجزر إلى مدغشقر، لم تُغير باريس موقفها، معتبرة أن الجزر جزء من أراضيها.
ومع تزايد أهمية الطاقة وتراجع نفوذ فرنسا في غرب أفريقيا، يبقى المحيط الهندي ملاذاً دبلوماسياً واعداً، لكنه محفوف بألغام استعمارية لم تُفكك بعد.
بين الطموح والتاريخ
يشير مارتينييه إلى أن «مقاربة ماكرون تميل إلى الواقعية السياسية، فهو لا يسعى لتسوية النزاع بالضرورة، بل لإعادة بناء حضور استراتيجي في منطقة تشهد تصاعداً في الاهتمام من قبل الصين والهند».
ويرى أن "فرنسا قد تعرض شراكة أمنية أو استثمارية في مجال الطاقة لتخفيف حدة المطالب السيادية، لكن دون نية فعلية للتخلي عن هذه الجزر».
في المقابل، تحذر رافيديناريفو من أن «رفض فرنسا المستمر للاعتراف بمطالب مدغشقر قد يُفقدها تدريجياً حلفاءها في المحيط الهندي، ويعزز خطاب ما بعد الاستعمار في هذه الدول، ما يضعف شرعية وجودها هناك».
وفي ظل هذا السياق المعقد، تبدو زيارة ماكرون لمدغشقر أكثر من مجرد تحرك بروتوكولي، بل اختباراً فعلياً لقدرة فرنسا على إعادة اختراع دورها في المناطق التي كانت ذات يوم جزءاً من إمبراطوريتها، وسط منافسة عالمية محتدمة وتاريخ استعماري لا يزال حيا في ذاكرة شعوبها السابقة.
aXA6IDE4LjIyNy4xMTEuMTAyIA== جزيرة ام اند امز