هل باتت قضيّة التواصل الاجتماعيّ، مقروءا ومسموعا ومرئيّا، هذه الأيّام من القضايا المصيريّة التي تلعب دورا فاعلا في تشكيل توجهات البشر؟
وخَلْق الرأي العامّ إنْ إيجابا أو سلبا تجاه قضايا قائمة بذاتها آنيّة أو استقباليّة؟
لعلّ علامة الاستفهام المتقدّمة ارتفعت في أعلى علّيّين العامَ الأخير، ذلك العام المؤلِم الذي ضربتْ فيه جائحةُ فيروس كوفيد-19 الشائه الإنسانيّةَ بأسرِها، وفرضت عليها حَجْرا طوعيّا، ولهذا اعتبرتْ شعوبُ العالم أنّ عالم الاتّصالات هو البديل الجَيّد الذي وَفّرتْه التكنولوجيا الحديثة لوَصْل ما قد انقطع في ظلِّ الظروف غير المسبوقة والخوف الذي خَيَّم بأجنحته على القاصي والداني.
على أنّ عالم الاتّصالات على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ليس هو الذي كان في العقود السابقة؛ فقد أحدثتْ وسائطُ التواصل الاجتماعيّ الحديثة، وشركات المعلومات العملاقة ثورة تجاوزت أزمات تأثيرات شبكات الإذاعة والتلفزيون التي لعبتْ دورا كبيرا في تشكيل الإطار العامّ قبل عقودٍ خَلَتْ.
في هذا السياق، كان ولا يزال السؤالُ: إلى أين تمضي هذه الثورةُ التواصليّة المعلوماتيّة، وهل هي تصبّ في صالح الحقيقة أم أنّ الزيف يغلب، والحقيقة تضيع في صخب المشهد المعولم الحاليّ؟
طويلا جدّا اهتمّ الأحبار الرومانيّون بقصّة الإعلام، وكتب البابوات المتعاقبون رسائلَ حول الإعلام، ومنهم سعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني، صاحب التعبير الشهير "الإعلام يصنع صيفا أو شتاء متى أراد"، بمعنى أنّه قادرٌ على إشعال اللَّهَب بالكلمات أو إخماد الألسنة المستعِرة بالحروف.
كَرَّستْ حاضرةُ الفاتيكان كلَّ عامٍ رسالة تهتمّ بعالم الاتّصالات، في محاولة لاستنهاض الجهود الأمميّة في مسارات البحث عن الحقيقة، ولعلّ البابا فرنسيس هو أكثر البابوات تعاطيا مع وسائط التواصل الاجتماعيّ، وحسابه على تويتر يتابعه الملايين، وقد شاءت الأقدار أن يُضحِي البابا الذي انفجرتْ في زمنه فقاعةُ أدوات التواصُل الكُبرَى من تويتر وأنستقرام وفيسبوك وغيرها ممّا نعرف وما لا نعرف، ولهذا يبدو متابعا لإشكاليّات المشهد.
والثابت أن أكبر وأخطر آفةٍ تواجه عالم الاتّصال في السنوات الأخيرة هي قضيّة الأخبار الزائفة أو الكاذبة والمغلوطة، تلك التي تسبّبتْ، ولا تزال، في الكثير من الألم والخوف، بل الخسائر المادّيّة والمعنويّة، ويبدو أنّ مجابهتَها مسألةٌ ليست سهلة، لا سِيّما أنّها تتقاطع مع مسألة حرّيّة الرأي. والدليل على ما نقول به الأزمة التي نشبتْ مؤخرا بين الرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب وشركة تويتر التي أوقفتْ حسابَه بسبب اعتبار أن ما ينشره أخبارٌ غير صادقة.
قبل أيّام، وفي مناسبة اليوم العالميّ الخامس والخمسين للاتّصالات الاجتماعيّة، أصدر البابا فرنسيس رسالتَه التي حملتْ عنوان "هَلُمَّ فانظرْ!"، وفيها يرى أنّه من الضروريّ في عالم الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعيّ الخروج من الافتراض المريح لـ"ما نعرفه"، ونتحرك لنذهب وننظر، ونقيم مع الأشخاص ونصغي إليهم، ونجمع اقتراحات الواقع، التي ستفاجئنا على الدوام في بعض جوانبها.
يُكَرّس فرنسيس رسالته للإعلام والإعلاميّين، للصحافة والصحفيّين، للكُتّاب والناشرين، ويدعوهم للخروج من الجيتوهات والشرنقات التي طالما عَلقوا فيها، لا سِيّما أولئك المؤدلَجين، وأصحاب المواقف الحَدّيّة، مع أن التاريخ يحمل قصصا كثيرة في الهوامش لا تَقِلّ عن المتن، وما بين الأبيض والأسود درجاتٌ متفاوتة من الألوان.
تأتي هذه الرسالة بمثابة اقتراح من الساكن وراء جدران الفاتيكان لأيّ تعبير تواصليّ يريد أن يكون واضحا وصادقا، في تحرير صحيفة ما كما في عالم الويب، في الوعظ داخل دُور العبادة، كما في التواصل السياسيّ أو الاجتماعيّ.
يستدعي فرنسيس ما قاله الطوباويّ مانويل لوزانو غاريدو لزملائه الصحفيّين: "افتحْ عينَيْك بذهول على ما ستراه، ودَعْ يدَيْكَ تمتلآن من نضارة الحيويّة، لكي وعندما يقرؤك الآخرون، يلمسون بأيديهم معجزةَ الحياة النابضة".
تمضي كلماتُ الرسالة في طريق الحياة والأمل، الصدق والموضوعيّة، وتبعد كثيرا جدّا عن عالم الرياء والخداع ولو بالكلمات، فالكلمة نور وبعض الكلمات قبور.
يبدو فرنسيس متابعا جيّدا لعالم الاتّصالات ووسائط التواصل، ولهذا يعتبر أن هناك خطرا بأن تؤدّي أزمة النشر إلى تركيب المعلومات في غرف الأخبار، أمام أجهزة الكمبيوتر، في محطات الوكالات وعلى الشبكات الاجتماعيّة، دون الخروج إلى الشارع على الإطلاق، ودون ما يسميه "استهلاك نعال الأحذية"، ودون لقاء الأشخاص للبحث عن القصص أو التحقُّق من مواقف معينة وجها لوجه.
ما الذي تعنيه الكلمات المتقدِّمة عند الرجل ذي الثوب الأبيض؟
مُؤكَّد أنّه يعود بنا إلى آفة الانعزاليّة المعلوماتيّة والاعتماد على ما يُروج فقط من وراء المكاتب الفخيمة، وفي القاعات المُكَيَّفة، وكثير منها في واقع الحال منحولٌ لسبب بسيط، وهو أنّها لا تتعاطى مع حقائق الأشياء وطبائع الأمور على أرض الحقائق، فيما تمدّ أطرافها إلى ملامح البهتان والإفك.
يُحَذِّر البابا من الإعلام الذي لا ينفتح على اللقاء، ويرى أنّه من غير مقابلات شخصيّة نبقى مُجَرَّد متفرّجين خارجيّين، على الرغم من الابتكارات التكنولوجيّة التي لديها القدرة على وضعنا أمام الواقع المُعَزَّز الذي يبدو لنا أنّنا منغمسون فيه.
في كلمات هذه الرسالة رجع صدى لا يتلكَّأ ولا يتأخّر لحديث سلفه عن الصيف والشتاء، إذ يعتبر أن الابتكارات التكنولوجيّة والتي لديها القدرة على وضعنا أمام الواقع المعزز الذي يبدو لنا أنّنا منغمِسون فيه، يمكنها أيضا إذا لم تستخدم على الوجه الأكمل والصحيح أن تضحى مسألة كارثيّة تُغرِق العالم في ظلام وظلال الأكاذيب. ولهذا فإنّ كلّ أداة من أدوات التواصل والاتصال مفيدة وثمينة فقط إذا دفعتنا لكي نذهب وننظر إلى الأشياء التي لن نعرفها بطريقة أخرى، وإذا وضعت على الإنترنت معارف لا يمكن تداولُها بطريقة أخرى، وإذا سمحت لقاءات، فلن تحدث دون ذلك.
كان من الطبيعيّ جدّا، وكما أسلفنا في مقدّمة المقال، أن يلفت فرنسيس الانتباهَ إلى العلاقة القائمة بين عالم الاتّصالات ووقائع كوكبنا الأزرق المتألّم بدوره إيكولوجِيّا، لا سِيَّما في زمن الجائحة الكورونيّة المخيفة.
يطالب فرنسيس الإعلاميّين والصحفيّين بأن ينظروا عن قرب إلى عالم الكورونا، فهناك خطر سرديّة الوباء، وكذلك كل أزمة، والمطلوب النظر بعين الحقيقة ومن غير رؤى مزدوجة.
يطالب فرنسيس كلَّ صاحب ضمير في عالم الإعلام والاتّصال بأن يكون صوتا صارخا في بَرِّيَّة العالم المعاصر، ويأخذ من موضوع الساعة الأكثر أهمية، أي موضوع اللقاحات اللازمة لمقاتلة كوفيد- 19 مثالا، ويدعونا للتفكير فيه وكذلك بالرعاية الطبّيّة بشكل عامٍّ، وفي خطر استبعاد السكان الأكثر فقرا، ويتساءل: "من سيخبرنا عن انتظار الشفاءات في أفقر قرى آسيا وأمريكا اللاتينيّة وأفريقيا؟".
محور رسالة فرنسيس للعاملين والفاعلين في عالم الاتّصالات هو أن نولي الاهتمام لما هو جوهريٌّ، وألا نسمح للفائض أن يلهينا، وأن نُمَيِّز المظهر المخادع عن الحقيقة. ويُنهِي بقوله: امنحْنا يا رَبَّ النعمة لكي نتعرف على مساكنك في العالم والصدق لنخبرَ بما رأيناه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة