الذكاء الاصطناعي.. هل يصوغ ملامح المستقبل؟

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية ناشئة أو مجالاً علمياً محدوداً كما كان في بداياته منتصف القرن الماضي.
بل تحول ذلك التطور التقني الفائق اليوم إلى قوة محورية تعيد رسم خرائط الاقتصاد والسياسة والمجتمع. وحاول الخبراء الإجابة عن سؤال يفرض نفسه: هل سيكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة للإنسان، أم أنه عنصر رئيسي في تشكيل المستقبل؟
وتشير التقديرات الاقتصادية إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يضيف ما يتجاوز 15 تريليون دولار إلى الناتج العالمي بحلول عام 2035. وهذه الأرقام ليست مجرد توقعات متفائلة، بل تعكس بالفعل التحولات الجارية في مختلف القطاعات. فالشركات العالمية في مجالات التكنولوجيا، الصناعة، الخدمات المالية، وحتى الزراعة، باتت تعتمد على الخوارزميات الذكية في رفع الكفاءة وتقليل الأخطاء وتوقع اتجاهات الأسواق.
ولا يتوقف التطور عند حدود تحسين الإنتاجية، بل يمتد إلى ابتكار نماذج أعمال جديدة بالكامل، مثل الاقتصاد القائم على البيانات والخدمات الرقمية المخصصة لكل فرد. وهنا يصبح الذكاء الاصطناعي بمثابة محرك رئيسي للثروة ووسيلة لتعزيز القدرة التنافسية بين الدول والشركات.
سوق عمل يتغير جذريًا
وإلى جانب الطفرة الاقتصادية، يثير الذكاء الاصطناعي تساؤلات عميقة حول مستقبل الوظائف. فالتقارير الصادرة عن منظمات دولية، مثل المنتدى الاقتصادي العالمي، تتوقع اختفاء ملايين الوظائف التقليدية نتيجة الأتمتة، مقابل خلق وظائف جديدة في مجالات البرمجة، تحليل البيانات، وإدارة الأنظمة الذكية.
والمعضلة الحقيقية تكمن في سرعة التحول. فبينما يحتاج سوق العمل إلى إعادة تأهيل أعداد هائلة من العاملين، يظل التعليم والتدريب في كثير من الدول غير مواكب للثورة التكنولوجية. النتيجة قد تكون فجوة اجتماعية متزايدة بين من يمتلكون المهارات الرقمية ومن يفتقدونها.
ويتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي المجال الاقتصادي إلى إعادة تشكيل الثقافة والعلاقات الاجتماعية. فأنظمة التوصية التي تديرها منصات التواصل الاجتماعي تحدد ما يشاهده الأفراد وتوجه اهتماماتهم، ما يخلق فقاعات معرفية قد تعزز الانقسام المجتمعي.
كما أن الاعتماد المتزايد على المساعدات الرقمية، مثل "تشات بوتس" أو الروبوتات المنزلية، يغير طبيعة العلاقات الإنسانية ويطرح تساؤلات حول حدود التفاعل بين الإنسان والآلة.
لا يمكن إغفال الجانب المظلم للتكنولوجيا. فالخوارزميات قد تحمل تحيزات غير مقصودة تؤدي إلى تمييز في التوظيف أو تقديم الخدمات. كما أن استخدام الذكاء الاصطناعي في المراقبة الأمنية يثير مخاوف جدية حول الخصوصية والحريات الفردية. وقد يتسارع تطوير أنظمة ذاتية التشغيل في المجال العسكري، ما قد يقود إلى سباق تسلح جديد قائم على الذكاء الاصطناعي. هذه التحديات تدفع إلى مطالب متزايدة بإنشاء أطر تنظيمية عالمية تضمن الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا، على غرار ما حدث مع المعاهدات الدولية في مجال الأسلحة النووية.
سباق دولي محتدم
أدركت القوى الكبرى أن الذكاء الاصطناعي لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية. الولايات المتحدة تستثمر مليارات الدولارات في تطوير بنيتها التحتية الرقمية ومراكز الأبحاث، بينما تضع الصين الذكاء الاصطناعي في قلب خططها التنموية لتحقيق الريادة العالمية بحلول 2030. ويسعى الاتحاد الأوروبي من جانبه إلى التميز عبر التركيز على التشريعات الصارمة التي توازن بين الابتكار وحماية الحقوق الفردية. هذا السباق يعكس إدراكًا عالميًا بأن الذكاء الاصطناعي أصبح عنصرًا مكافئًا للطاقة أو السلاح النووي في تحديد موازين القوى الدولية.
والمستقبل الذي سيشكله الذكاء الاصطناعي ليس مكتوبًا سلفًا. فإما أن يقود إلى عالم أكثر كفاءة وعدالة إذا جرى توظيفه لتقليص الفجوات وتحسين حياة البشر، أو أنه قد يعمق التفاوتات ويزيد من التوترات إذا تُرك دون ضوابط. وليكون الذكاء الاصطناعي شريكًا أساسيًا في صياغة مستقبل أكثر إنسانية، يجب أن يكون هناك استثمار في التعليم والتدريب، وضع أطر أخلاقية وقانونية، وتعزيز التعاون الدولي.