كلاهما ربما يعطي الانطباع أن العبقرية ليس لها بيئة اجتماعية خاصة توجد فيها، فما أبعد الشقة بين الأسرة التي احتضنت "بيل" و"ستيف"
بالصدفة البحتة شاهدت فيلما تسجيليا "في داخل عقل بيل جيتس" أثار لدينا تساؤلا عن دور "العباقرة" في التاريخ. وكانت صدفة من نفس النوع هي التي وضعت في طريقي الخطاب الذي ألقاه "ستيف جوبز" في كلية إدارة الأعمال بجامعة ستانفورد والذي أفصح فيه الكثير عن حياته. ولأسباب شتى كنت من الجيل الذي نظر إلى الزمن باعتباره مسيرة للطبقات في صراعها وتوافقها وجدليتها الكمية والكيفية، باختصار كانت أفكار "هيجل" وأكثر من ذلك طبقات كارل ماركس هي المحركة لفهم ما جرى وما سوف يأتي في الدنيا. وفي مادة "الفلسفة السياسية" التي درستها في العام الثاني من وجودي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ١٩٦٧/١٩٦٨ كان البحث الذي قدمته عن "ديكتاتورية البروليتاريا". دراسة العلاقات الدولية فيما بعد غيرت من الأمر، ولم تعد الطبقة بالضرورة هي المحركة للأحداث والواقع وإنما كانت "الأمم" في شكل الدولة القومية هي الواقف وراء ما نشاهد ونرى في تاريخنا القريب والمعاصر، وكان الاقتراب من علماء الاجتماع قد جعل تشابكات وخصائص المجتمع هي التي تحدد السلوكيات الجماعية والتحركات الوطنية والنزعات التحررية والمغلقة للجماعات والدول. وسواء كان الأمر خاصا بالطبقة أم الأمة أم المجتمع فقد كان الأمر كله في يد "الجماعة"، وراحت الأيام التي كان التاريخ فيها هو حكاية الإسكندر الأكبر أو تحتمس الثالث أو نابليون بونابرت أو حتى جوزيف ستالين أو لينين أو حتى هتلر.
بالتأكيد فإن "بيل جيتس" لم يكن صدفة تاريخية، والمؤكد أن التاريخ لم يعد بعده كما كان قبله، ولكنه لم يكن وحده فقد كان معه عبقري آخر "ستيف جوبز"
بشكل ما ونتيجة النزعات اليسارية في جيلنا هي التي حطت من شأن الفرد، أو قللت من شأنه، وحتى في أحوال تنبه فيها إنجلز في خطاب لأحد أصدقائه أنه رغم تركيزه هو وماركس على التطورات الاقتصادية والاجتماعية وقوى الإنتاج، فإنهما كانا يعرفان أن هناك عناصر أخرى يمكنها في ظل ظروف معينة أن يكون لها تأثيرا محوريا على التطورات التاريخية ومنها دور "الصدفة" و"الفرد". وبالتأكيد فإن "بيل جيتس" لم يكن صدفة تاريخية، والمؤكد أن التاريخ لم يعد بعده كما كان قبله، ولكنه لم يكن وحده فقد كان معه عبقري آخر "ستيف جوبز". الأول كان مؤسس "مايكروسوفت Microsoft" والثاني "آبل إنك Apple Inc"، وكلاهما كانا وراء "الكمبيوتر الشخصي" الذي غيّر وجه الإنسانية ومسيرتها كما نراها الآن. وبتعبيرات ماركس فإنهما خلقا تغيرا جوهريا في "قوي الإنتاج"، ومعها تغيرات علاقات الإنتاج بعد أن تغير معنى "الرأسمالي" و"العامل"، ومعهما تغيرت الأمم والمجتمعات.
"بيل جيتس" و"ستيف جوبز" ينتميان إلى جيل واحد، فكلاهما جاء إلى الدنيا في عام ١٩٥٥، الأول في ٢٨ أكتوبر والثاني ٢٤ فبراير، الأول لا يزال معنا يدير حركة التاريخ بطريقته الخاصة من خلال العلم والجمعية الأهلية، والثاني توفي بمرض سرطان البنكرياس عن سن ٥٦ عاما في الخامس من أكتوبر ٢٠١١.
وكلاهما ربما يعطي الانطباع أن العبقرية ليس لها بيئة اجتماعية خاصة توجد فيها، فما أبعد الشقة بين الأسرة التي احتضنت "بيل" و"ستيف". الأول جاء من أسرة مستقرة تقع في قلب الطبقة الوسطى الأمريكية في شرائحها العليا التي يوجد فيها المحامي المرموق "هنري جيتس" و"ماري جيتس" العضو البارز في مجالس إدارات عدد من المؤسسات. كلاهما كان لديه ما يكفي في ولاية واشنطن على الساحل الغربي للولايات المتحدة لكي يرسلا ابنهما إلى أفضل المدارس حتى يصلا به إلى جامعة هارفارد في بوسطن على الساحل الشرقي، وكان لديهما من اتساع الأفق ما يجعلهما يقبلان أن يترك ابنهما يغادر الجامعة بعد عامين لكي يبدأ مشروعه الخاص في الحياة. كان "بيل جيتس" أكبر من هارفارد، وهو الذي كان يعتزل في غرفته معظم الأوقات وعندما يسأل عما يفعل كانت إجابته الدائمة أنه "يفكر"!
وعلى الجانب الآخر لم يكن ستيف جوبز يشارك أيا من هذه الحياة مع بيل جيتس، اللهم إذا اعتبرنا أن مولده في كاليفورنيا على الساحل الغربي كان مشاركة في بيئة مزدهرة علميا، وبالأخص إلكترونيا، ولكن ما عدا ذلك كان جوبز مختلفا، فقد كان مولده غير شرعي لأب من أصول سورية (عبدالفتاح الجندلي) وأم من أصول أوروبية (جوان شيابل) اتفقا على منحه للتبني مع اشتراط أن يقوم من يتبناه بإلحاقه بالجامعة، انتهى الأمر بالطفل الرضيع إلى أسرة عامل بسيط وزوجته العاملة اجتهدا حتى يلحقا بابنهما الذكي المتمرد دائما بكلية "ريدز"، الذي تركها بعد سبعة شهور من الدراسة. فعل جوبز ما فعله جيتس، لم تكن لا الكلية ولا الجامعة تتسعان لعبقريتهما.
لم تكن بيئة كلاهما واحدة، كان أحدهما غنيا والآخر كان فقيرا، عاش الأول جيتس ولا يزال في مناخ عائلي مستقر، أما الثاني جوبز وحتى مات فقد عاش في مناخ عائلي بدأ في اضطراب وربما كان مستقرا بقدر ما مع عائلة محدودة القدرات ولكنه كان مضطربا في كل الأوقات. وبينما تزوج جيتس زواجا مستقرا من مليندا جيتس جعلهما يتقاسمان فيما بعد قيادة مؤسسة بيل ومليندا جيتس للأعمال الخيرية والسعادة بثلاثة من الأطفال، فإن جوبز ظل على علاقة مضطربة مع أكثر من زوجة أو شبه زوجة، وظل في كل الأوقات متشككا عما إذا كانت طفلته "ليزا" هي طفلته بالفعل. كان بين "بيل" و"ستيف" فوارق شخصية فالأول كان ولا يزال يعشق "الهامبرجر" أما الثاني فكان لا يأكل سوى الخضراوات والفواكه. ولكن كلاهما كان محظوظا برفيق للدرب فكان "بول آلن" هو رفيق بيل في أول شركاته، وكان ستيف ووزنياك هو رفيق جوبز في أول شركاته، ورغم الدور المهم الذي قام به الشريكان في إجازات العباقرة فإن كليهما كان عليه أن ينسحب من الأضواء الوهاجة للشمس العبقرية لبيل جيتس وستيف جوبز. ولكن كلاهما تشاركا في ثورة كبرى في العلم والأفكار وإدارة العالم، وبالتأكيد كلاهما حقق ثروة طائلة، بيل جيتس بالذات كان أغنى أغنياء العالم لسنوات كثيرة حتى تعدت ثروته ١٠٥ مليارات دولار، وغاب عن مقدمة الأغنى أغنياء بعد أن حل محله عبقري آخر "جيف بيزوس" صاحب شركة "أمازون".
ولكن جيتس كون ناديا لأغنى الأغنياء الذين يتبرعون بنصف ثروتهم لحل المشكلات العالمية، خاصة تلك المشكلات الكبرى التي نجح الغرب المتقدم في التخلص وفي مقدمتها مرض شلل الأطفال، والملاريا، والصرف الصحي والفقر في العالم. مؤخرا وضع الرجل موارده للتعامل مع التهديد الموجه إلى الكرة الأرضية نتيجة الاحتباس الحراري من خلال التعامل مع الطاقة الذرية النظيفة والآمنة ١٠٠%، جوبز على الجانب الآخر لم يذكر عنه الكثير من التعاطف الاجتماعي، سواء كان في أسرته أم في المجتمع كله، ولكنه كان الرجل الذي أعطى الدنيا كلها كما هائلا من التطبيقات العلمية، بدءا من الكومبيوتر الشخصي وحتى الآي بود، والآي فون، والأبل ستورز، والآي تون ستورز، والآي باد، وطوائف متعددة من المخترعات التي بالفعل لم يعد العالم بعدها كما كان قبلها. كلاهما نقل الثورة من الصناعة الثقيلة (حديد وصلب والبتروكيماويات) إلى الصناعات النظيفة والإلكترونيات، فاتحين الباب لثورات المعلومات والجينات والذكاء الاصطناعي التي معها صار الرأسمالي جزءا من الهندسة الاجتماعية للمجتمعات، وأصبح العامل من العلماء. خلق الإقنان عالما جديدا بالفعل!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة