«بنك الناتو».. مشروع دفاعي طموح يتعثر أمام الانقسامات الأوروبية

في تطور غير مسبوق، وجّهت كل من ألمانيا والمملكة المتحدة ضربة قوية لمشروع إنشاء ما يُعرف إعلاميًا بـ"بنك الناتو"، وهي مبادرة أطلقها مسؤولون سابقون في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتمويل الصناعات الدفاعية عبر آلية مصرفية متعددة الأطراف.
جاء هذا الانسحاب بعد الموقف السلبي الذي أعلنته فرنسا سابقًا، ليشكّل انتكاسة استراتيجية للبنك الوليد قبيل انعقاد مؤتمر دولي حاسم في لندن بمشاركة ممثلين عن 41 دولة.
المبادرة، التي تحمل اسم Defence, Security and Resilience Bank (DSR Bank)، أطلقها روب موراي، الضابط البريطاني السابق ورئيس صندوق الابتكار في الناتو سابقًا.
وتقوم الفكرة على تأسيس بنك متعدد الأطراف مقره لندن، يموَّل من مساهمات الحكومات والمؤسسات المالية، ليكون ذراعًا تمويلية مخصصة لدعم شركات الصناعات الدفاعية، وتمويل الابتكارات العسكرية، وتعزيز قدرات الحلف في مواجهة التهديدات الجيوسياسية المتصاعدة، وفقًا لصحيفة "ليزيكو" الفرنسية.
وكان المشروع يطمح لأن يضم فرنسا كعضو مؤسس، إلى جانب ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، لإضفاء شرعية سياسية ومالية قوية عليه. غير أن التطورات الأخيرة تعني أن أبرز العواصم الأوروبية المؤثرة قد أغلقت أبوابها أمام الفكرة.
أول صفعة تلقاها المشروع جاءت من باريس، التي أبدت تحفظات عميقة على المبادرة، معتبرة أن الآليات الأوروبية القائمة – مثل البنك الأوروبي للاستثمار – كافية لدعم القطاعات الاستراتيجية، بما فيها الدفاع، دون الحاجة إلى هيكل موازٍ قد يعمّق التوترات داخل الاتحاد الأوروبي.
لاحقًا، أعلنت ألمانيا رسميًا عبر وزارة الخارجية أنها "لا ترى أي فائدة مالية من الاقتراض عبر بنك متعدد الأطراف جديد"، مؤكدة تفضيلها الاعتماد على الأدوات الأوروبية والألمانية القائمة.
وبالأمس، وجّهت الخزانة البريطانية ضربة ثانية عبر "فيتو" رسمي، معلنة رفضها الانخراط في المشروع، ما وضع لندن – الدولة المضيفة لمقر البنك – في موقف متناقض، حيث باتت الحكومة لا تدعم رسميًا الكيان الذي يُفترض أن ينطلق من عاصمتها.
وجاءت هذه الانسحابات في توقيت حساس، إذ يعقد اليوم في لندن مؤتمر موسع في مقر البنك، بمشاركة ممثلين عن 41 دولة، بينها الولايات المتحدة، اليابان، وألمانيا، إضافة إلى بريطانيا نفسها. وكان المؤتمر يفترض أن يشكّل تصويتًا بالثقة حول إطلاق المشروع رسميًا.
لكن فقدان دعم ثلاث قوى أوروبية كبرى – فرنسا، ألمانيا، بريطانيا – يلقي بظلال قاتمة على مستقبل المبادرة، ويثير تساؤلات حول جدواها في ظل الانقسامات الأوروبية بشأن كيفية تمويل الصناعات الدفاعية، وأي المؤسسات يجب أن تضطلع بهذا الدور.
وتأتي هذه المبادرة في وقت يتزايد فيه الضغط على دول الناتو لزيادة إنفاقها الدفاعي في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية، وتنامي التهديدات الأمنية العالمية، من الصين إلى الشرق الأوسط.
وقد دعا الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرغ، مرارًا الدول الأعضاء إلى تخصيص 2% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، وهو ما لم تلتزم به جميع الدول حتى الآن.
وكان إطلاق بنك متخصص يُنظر إليه كحل لتجاوز الضغوط على الميزانيات الوطنية، عبر جذب رؤوس الأموال الخاصة والمؤسساتية إلى قطاع الدفاع. غير أن غياب الدعم السياسي من العواصم الكبرى يُفقد المشروع مصداقيته منذ لحظة ولادته.
رفض باريس وبرلين ولندن لا يعكس فقط خلافًا ماليًا، بل يُظهر أيضًا تباينًا في الرؤية الاستراتيجية داخل الغرب: فرنسا وألمانيا تفضّلان العمل داخل الإطار الأوروبي – مثل الصندوق الأوروبي للدفاع والبنك الأوروبي للاستثمار – للحفاظ على استقلالية القرار الأوروبي عن الناتو والولايات المتحدة.
أما بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، فقد وجدت نفسها بين ضغوط التزاماتها الأطلسية ومصالحها الاقتصادية الداخلية، لتقرر في النهاية التخلي عن المشروع.
أما الولايات المتحدة فلم تعلن موقفًا رسميًا بعد، لكنها قد تجد نفسها وحيدة في دعم الفكرة إذا انسحبت القوى الأوروبية الرئيسية.
وتشير المؤشرات الحالية إلى أن مشروع DSR Bank يواجه أزمة وجودية قبل أن يرى النور فعليًا، كما أن فقدان دعم ثلاث قوى أوروبية رئيسية يعني أن أي إطلاق رسمي سيفتقد الشرعية اللازمة، ويصعّب جذب الاستثمارات الخاصة.
وبينما تتزايد التحديات الأمنية العالمية، يظل سؤال تمويل الصناعات الدفاعية في الغرب مطروحًا بقوة: هل ستتجه أوروبا إلى مزيد من المبادرات الوطنية والإقليمية؟ أم ستظل مرتبطة بمحاولات متعثرة لإنشاء مؤسسات جديدة؟
وما كان يُفترض أن يكون خطوة جريئة نحو تعزيز التمويل الدفاعي للناتو، تحوّل بسرعة إلى درس قاسٍ في الانقسامات الأوروبية. فبين حسابات السياسة الداخلية، والتوازنات الاقتصادية، والاعتبارات الاستراتيجية، يبدو أن "بنك الناتو" فقد زخمه قبل أن يبدأ.
وفي غياب توافق بين العواصم الكبرى، قد يبقى المشروع مجرد طموح على الورق، بينما يظل السباق نحو تمويل الدفاع رهينة للأدوات التقليدية والصراعات البينية داخل الغرب.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuOTcg جزيرة ام اند امز