من بيروت.. أخطر عمليات التجسس ضد الألمان في الحرب العالمية
في حروب الجاسوسية يصنع طرف ما فخا للآخر ويخططه بعناية وينتظر نتائج حاسمة في صراع أو حرب تقليدية، لكن هناك استثناءات لنجاح هذه الخطط.
الاستثناء الأخطر والذي غير مسار العالم هو قصة ناتالي سيرجييف، تلك الشابة التي لعبت على حبال ألمانيا لتقدمها على طبق من ذهب للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.
ناتالي سيرجييف التي تطلق على نفسها اسم ليلي شابة روسية يكسو وجهها بعض من براءة الأطفال لكنه يخفي خلفه ملامح أخطر جاسوسة في هذه الحرب الحاسمة.
وولدت ناتالي في 25 يناير/كانون ثاني 1912 في سانت بطرسبرغ الروسية، قبل أن تشد عائلتها الرحال وهي في سن السابعة إلى باريس، وتعيش في العاصمة الفرنسية رفقة والديها وأختها.
بمرور الوقت، تحسن وضع العائلة وعملت في تجارة السيارات، ثم تجنست بالجنسية الفرنسية، لتصبح ناتالي فرنسية، وتبدأ طريقها الخاص.
رحلات أوروبا
كانت الشابة شغوفة لدرجة كبيرة بالرسم وعكفت على دراسة الفن أربع سنوات قبل أن تخرج في سن الـ22 في رحلة تفقد للمدن الأوروبية من باريس إلى وارسو لرسم اللوحات وكتابة التقارير الصحفية عن هذه المدن.
وخلال هذه الرحلة عرفت نفسها كصحفية وفنانة في آن واحد، ودلفت من مدينة إلى أخرى، إلى أن حطت في برلين لعدة أسابيع، بالتزامن مع بسط النظام النازي بقيادة أدولف هتلر سيطرته على البلاد.
هناك حظيت بلقاء من نوع خاص مع الصحفي الألماني فيليكس داسل رجل النظام النازي الأمين والذي كان معروفا بالتعاون مع وزارة الدفاع في الحكومة النازية، ما سيصيغ حكايتها في وقت لاحق.
بعد العودة إلى باريس، كررت الشابة رحلتها بين المدن الأوروبية وزارت النمسا وتشيكوسلوفاكيا، ولكن وسيلة تنقلها كانت الدراجة لأنها كانت شغوفة بقيادة الدراجات في ذلك الوقت.
تنقلت بين المدن، رسمت اللوحات وكتبت المقالات، وغسلت ملابسها في مياه الأنهار التي مرت عليها، لكن شيئا في روحها ظل ناقصا.
حلب وبيروت
لذلك قررت الشابة ترك أوروبا، وشدت الرحال إلى الشرق الأوسط، وعند بداية الغزو الألماني لبولندا على 1939 كانت الشابة الفرنسية في حلب السورية، تقطع رحلة بالدراجة نحو بيروت والتي مكثت بها للتدريب كممرضة.
لكن ذلك أيضا لم يملأ شغف الشابة المنطلقة والشجاعة ولم تعثر على نفسها، وازداد قلقها في ظل الزحف الألماني نحو الدول الأوروبية.
مكثت في سريرها في بيروت يومين تفكر بعمق، وضعت خطتها بعناية، كانت تظن في المساء أنها قابلة للتطبيق، لكن ذلك التفاؤل يتبدد في الصباح وشعرت أن الخطة درب من الجنون، وفق ما أوردته في مذكراتها.
في النهاية، قررت أن تحاول من أجل أحبائها في باريس التي خضعت لتوها لسيطرة الألمان.
وبالفعل، رتبت لقاء مع فيليكس داسل في مدينة أوروبية وأبدت انفتاحا على العمل مع الاستخبارات الألمانية وركلت كرة البداية في خطتها الجريئة.
بدوره، لعب الصحفي الألماني الدور المنوط به وفتح قنوات الاتصال بينها وبين الاستخبارات الألمانية، ووضعتها الأخيرة على لائحتها وخصصت ضابطا مسؤولا عنها يدعى إميل كليمان.
وخضعت الشابة الفرنسية لتدريبات شاقة على الاستقبال والإرسال عبر أجهزة الراديو، وعلمت جميع أنواع الأسلحة، سواء التي يستعملها الحلفاء أو الألمان، وكان الهدف أن تدخل الأراضي البريطانية كلاجئة فرنسية وتتجسس لصالح برلين.
وفي فبراير/شباط 1943، استقلت القطار إلى مدينة فيشي الفرنسية ومنها لباريس وبدأت ممارسة ما تدربت عليه انتظارا للجزء الثاني من الخطة.
لم يدم الأمر طويلا واستقلت في يونيو/حزيران من نفس العالم، قطارا إلى مدريد، التي كانت بعيدة عن الحرب في ظل قيادة الجنرال فرانكو لكنها كانت قاعدة خلفية للجواسيس.
الرحلة كانت بالأساس للقاء الضابط الألماني المسؤول عنها، لكنها استغلتها لتنفذ الجزء الثاني من خطتها عبر فتح قناة اتصال مع السفارة البريطانية وعرضت خدماتها عليها.
الخداع الكبير
ومضت الأمور كما كان مخطط لها.. نجحت خطتها وأقنعت البريطانيين بأهمية ما تعلمه عن محاولات الألمان معرفة موقع إنزال الحلفاء في فرنسا وإفشاله في المهد.
في وقت قصير وجدت ليلي نفسها أهم عضو في خطة البريطانيين لخداع الألمان عبر تمرير معلومات كاذبة عن موقع الإنزال المحتمل في فرنسا
بدأت العملية وراسلت ليلي، الضابط كليمان من قلب بريطانيا وغذته بمعلومات حقيقية زودتها بها الاستخبارات البريطانية عن الصواريخ وتحركات جيش الحلفاء، وبعض المعلومات عن الجدل الدائر في القيادة العليا عن موقع الإنزال المحتمل.
لكنها مرضت بشدة.ومكثت في سريرها، وخضعت لفحوصات طبية بينت إصابتها بفشل كلوي وأن كليتيها معطوبتان.
أراد الأطباء البريطانيون استئصال كلية من الاثنتين وحددوا 6 أشهر كأقصى وقت لحياتها، لكنها قالت إنها ستموت أسرع بكلية واحدة ورفضت عملية الاستئصال، وكانت على حق لأنها ماتت بعد ست سنوات من تاريخ الخضوع للكشف الطبي (نهاية 1943).
بعد الكشف الطبي، لم تعبأ بالمرض، واستمرت في العمل وتغذية الألمان بأخبار كاذبة عن موقع الإنزال المحتمل للحلفاء.
6 رسائل أسبوعية ترسلها ليلي إلى الألمان تضم معلومات في غاية الأهمية وحقيقية عن الدبابات والصواريخ ومواقف التمركز وبينها أخرى كاذبة عن الإنزال
نجحت الخطة.. اقتنع الألمان بأن الحلفاء يخططون للإنزال في با دو كاليه الفرنسية.. لكن الضربة جاءت في نورماندي عبر 6900 سفينة إنزال وحرر الحلفاء فرنسا وانقضوا على ألمانيا.
وبذلك، حققت ليلي نبوءة الضابط الألماني كليميان حين قال لها إنها "أول امرأة يتاح لها تغيير مجرى التاريخ" لتحفيزها على خدمة برلين، لكن في الاتجاه المعاكس، حيث كانت رأس الحربة في توجيه ضربة قاضية للألمان وغيرت مجرى الحرب والبشرية لصالح الحلفاء.