الانتشار السريع للوباء في غضون شهور قليلة هو دليل على كثافة العلاقات بين الأفراد والمجتمعات عبر الحدود الدولية، والطابع العالمي لها
من المبالغات التي تتردد بشأن تأثير أزمة وباء فيروس كورونا، الحديث عن "نهاية العولمة" و"العودة إلى الدولة الوطنية"، بما يُعطي الانطباع بأن العولمة قد لفظت أنفاسها، وأنه يوجد تناقض حتمي بين العولمة والدولة الوطنية، وأن صعود أحدهما يكون بالضرورة على حساب الآخر. وهذا القول فيه من الطرح الأيديولوجي أكثر مما يُخبرنا به واقع الأمور ومجريات الأحداث.
فالحقيقة، أن المؤشرات التي يرصدها الباحثون في سلوك الدول وفي العلاقات بينها تحمل خليطاً من الأمرين. فمن ناحية أولى، فإن الانتشار السريع للوباء في كل أرجاء المعمورة في غضون شهور قليلة هو دليل على كثافة العلاقات بين الأفراد والمجتمعات عبر الحدود الدولية، والطابع العالمي لها. ويترتب على ذلك أنه إذا كنا إزاء وباء عالمي، فإن الحل والعلاج لابد أن يكونا من نفس الطبيعة، ولن تشعر أي دولة بالأمان إلا إذا تم التخلص من هذا الوباء أو التقليل منه بشكلٍ محسوس في كل العالم، وإلا فإن عودته تظل واردة وممكنة، وهو ما يتطلب توثيق أواصر التعاون العالمي ووقوف كُل دول العالم في جبهة واحدة في مكافحة الوبا، ويدل على ذلك مثلاً أنه يوجد تعاون دولي في إجراء الاختبارات السريرية على المصابين بالمرض للتأكد من فاعلية اللقاح الذي يتم اختباره.
من مظاهر العولمة أيضاً، التأثيرات السلبية التي حلَّت بكل اقتصادات العالم، فقد تأثرت جميعها نتيجة توقف حركة التجارة الدولية، فاقتصادات الدول الصناعية المُتقدمة تعتمد على التجارة مع الخارج، فتبلغ نسبتها إلى إجمالي الناتج المحلي وفقاً لإحصاءات البنك الدولي 87% في ألمانيا، و83% في كوريا الجنوبية، و61.8% في بريطانيا، و60% في فرنسا، وتنخفض في الصين إلى 38%، وفي أمريكا إلى 28% بسبب ضخامة السوق الداخلي فيهما. وقد توقفت أيضاً خطوط الإمداد، مما أدى إلى إغلاق عدد من شركات صناعة السيارات الكبرى بعضاً من مصانعها في أوروبا وآسيا مثل شركتيْ رينو ونيسان.
إن الشعارات المرسلة عن "نهاية العولمة" لا تفيد في تحليل المشهد الدولي الراهن أو تغييره بل ولا تخدم مصالح الدول العربية بالضرورة.
في نفس السياق، انخفضت عوائد الدول المُنتجة للبترول بسبب توقف حركة النقل، ووقف النشاط الاقتصادي، مما أدى إلى انخفاض الطلب على هذه السلع الاستراتيجية والخلاصة، أن العلاقات الاقتصادية في العالم اليوم تقوم على الترابط والتداخل والاعتماد المتبادل.
ومن ناحية ثانية، فإن هناك مؤشرات مُخالفة تدل على الانغلاق والانكفاء على الذات، والتي تمثَّلت أساساً في وقف انتقال الأفراد بين الدول، وتَبَنِّي قواعد التباعد الاجتماعي والعزل والإغلاق. وهي إجراءات ضرورية استلزمتها اعتبارات الصحة العامة والحفاظ على سلامة الأفراد، وفي هذه الظروف الاستثنائية، قامت بعض الحكومات بممارساتٍ أهدرت فيها قيمة التعاون الدولي لحساب المصالح الداخلية حتى وإن كانت مخالفة للقوانين والأعراف الدولية، مثل تأخر ألمانيا في الاستجابة لطلب المساعدة من إيطاليا، وقيام دولة التشيك بمصادرة حمولة طائرة كانت تحمل مستلزمات طبية متجهة إلى إسبانيا، وهو ما فعلته تركيا أيضاً، ويدخُل في هذا المجال أيضاً توجهات الرئيس ترامب الانعزالية والتي من مظاهرها تصعيد الخلاف مع الصين، وفرض عقوبات اقتصادية على شركاتها، وقطع صِلة بلاده بمُنظمة الصحة العالمية.
لقد اضطرت الحكومات إلى اتخاذ قرارات الإغلاق والمنع تحت وطأة الوباء وازدياد أعداد المُصابين والمُتوفين. ولذلك، فإنها سرعان ما اتخذت قرارات التخفيف من هذه الإجراءات بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت باقتصاداتها، ففي الأسبوع الأخير من مايو، تم الإعلان عن إجراءات عديدة يتم تطبيقها في شهريْ يونيو ويوليو، منها: السماح بالطيران بين دول الاتحاد الأوروبي، وعودة خطوط الطيران التجاري بين عدد من عواصم العالم، وقيام شركات السياحة اليونانية بعودة نشاطها لمواطني 31 دولة، وتم بالفعل أول صلاة بالمسجد النبوي والمسجد الأقصى وكنيسة المهد، وتدور العجلة بسُرعة.
فما هو تأثير كل ما تَقدَّم على العولمة؟ إذا كان المقصود بالعولمة هو انخراط اقتصادات الدول في سوق عالمي والاعتماد المتبادل بينها، أو أن الشركات العملاقة تخطط لأنشطتها في مجالات الإمداد والإنتاج والتوزيع عالمياً، أو أن سلاسل متاجر ومحلات القيمة العالية تتوسع في فتح فروع لها في كل أرجاء العالم، فإنه من الأرجح أنها سوف تستمر بعد انتهاء الأزمة. سوف يحدث تراجعاً في هذه الأنشطة لفترة بسبب حالة الركود الاقتصادي، ولكنها سوف تعود إلى سابق عهدها بعد الخروج من هذه الحالة، فقد أصبح الإنتاج من أجل التصدير، والانخراط في الاقتصاد العالمي أمرين ضرورييْن لازدهار أغلب اقتصادات الدول المتقدمة، من الأرجح أيضاً أن تُعيد الدول حساباتها بشأن خطوط الإمداد للسلع الاستراتيجية التي تعتمد عليها، وتتم مُراجعة السياسة الصحية للتأكد من وجود الاستعدادات اللازمة لمواجهة حالات الطوارئ الطبية.
ولكن هناك وجه سلبي للعولمة ينبغي مُراجعته، فباسم العولمة بررت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية لنفسها حق التدخُل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والضغط على حكوماتها، تارة باسم نشر الديمقراطية وتارةً أخرى باسم حماية حقوق الإنسان وباسم العولمة أيضاً، تقلصت قُدرات كثير من الدول النامية على تخطيط اقتصاداتها وتحديد أولوياتها وفقاً لمصالحها. وباسم العولمة والقيم العالمية، رَوَّجت الدول الغربية إلى قيم وممارسات غير مقبولة على أبناء الثقافات الأخرى مثل إلغاء عقوبة الإعدام من القوانين الجنائية، واعتبار العلاقات بين المثليين جزءاً من الحريات الشخصية للإنسان وهي ممارسات وادعاءات مرفوضة ولا يجب التسليم بها.
وفي تقديري، فإن الشعارات المرسلة عن "نهاية العولمة" لا تفيد في تحليل المشهد الدولي الراهن أو تغييره بل ولا تخدم مصالح الدول العربية بالضرورة، فلابُد من التمييز في هذا الشأن بين مفهوميْ العولمة والتعاون الدولي، فالعولمة تعبير جديد لم يكن شائعاً قبل تسعينيات القرن الماضي، أما التعاون الدولي فيعود إلى حقب طويلة مضت. والمطلوب هو أن يتخلص العالم من الفهم المتعالي – بل وأكاد أقول العنصري- للعولمة الذي يزعم أن القيم والنظم القائمة في المجتمعات الغربية ينبغي فرضها على الآخرين بدعوى أنها ذات طابع عالمي، بحيثُ يكون مفهوم العولمة نابعاً من روافد ثقافية وحضارية مُتنوعة.
لا توجد علاقة تناقُض حتمي بين العولمة والدولة الوطنية، وهناك مفاهيم أُخرى للعولمة تقوم على احترام السيادة الوطنية، وعدم التدخُل في الشؤون الداخلية لها، والتأكيد على المصالح الاقتصادية المُشتركة. ولعل أبرزها المفهوم الصيني واستراتيجية "الحزام والطريق".
العالم يخرج مرهقاً من هذه الأزمة ودوله الكبرى مُثخنة بالجراح، وسوف تُركِّز في الشهور القادمة على بعث الحيوية في اقتصاداتها وتجاوز الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الأزمة، وسوف تحدث نقاشات وجدالات كثيرة، حول ماذا حدث بالضبط؟ وكيف انتشر هذا الوباء دون أن تقرع مبكراً أجراس الإنذار؟ وهل أخفقت منظمة الصحة العالمية في تحمل مسؤولياتها؟ أم أن قيادات العالم تأخرت في إدراك مؤشرات الخطر فجاءت الاستجابة متأخرة؟ أم أن النظم الصحية لم تكن جاهزة أو مُستعدة؟ أم خليط من ذلك كله؟
وهناك جهود للبحث عن إجابات لهذه الأسئلة منها مطالبة بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي بضرورة إجراء تحقيق مستقل، وتشكيل الاتحاد الأوروبي لجنة للقيام بالتحقيق في هذا الأمر.
والوقت مناسب لأن يطرح المفكرون العرب ومفكرو دول الجنوب رؤاهم للدروس المُستفادة من محنة وباء كورونا، ولتطوير مؤسسات النظاميْن الإقليمي والدولي والقيم الحاكمة لهما، بحيث يصبحون شركاء في الحوار العالمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة