"انتقام الأبله وحكاية سمكة الصياد".. قمقم حجاج أدّول يفيض بسرد عجائبي
بين دفتي كتاب واحد يقدم الكاتب حجاج أدّول روايتين قصيرتين يمر فيهما أبطاله بكثير من الصراعات الإنسانية وعوالم غرائبية مدهشة.
لن تسمع بها ضجيج المدينة، ولن تمر فيها بوجوه نمطية، فالوجوه على مدار 145 صفحة، تنتمي لزمن "هُلامي" ومكان لن ترتحل إليه يوما لمعاينته، لكنك ومن المؤكد أنك ستشُم رائحة البن في موسم حصاده.. وتقرأ الحب المفضوح على وجوه أصحابه.. وتُبصر الأحلام وهي تُحلق على الرؤوس وتغادر.
بين دفتي إصداره الأخير، قدّم الروائي المصري حجاج أدّول روايتين بقطع الـ"نوفيلا" وهما "انتقام الأبله" والثانية "حكاية سمكة الصياد"، وهما متتاليتان في الترتيب وليس في السرد، يضمهما كتاب واحد بعنوان "انتقام الأبله وحكاية سمكة الصياد" من إصدار دار "الشروق" المصرية.
ربط حجاج أدّول، 1944، بين الروايتين القصيرتين بحبل خفي من الغرائبية، وكأنه ينسج عالما موازيا من صنيعه يختبر فيه الإنسان بهشاشته وسوء حظه وميوله الفطرية للشر كما الخير، ولكن في سياق يجنح عن الواقعية.
الحكاية الأولى
الرواية لها مذاق سردي خاص، يعتمد فيه الكاتب على وصف غزير لمسرح أحداثه ولغة مرنة تحتفي بالجمال، وذلك دون أن يُضعف هذا من الإيقاع المشدود للسرد الذي احتفظ به على مدار الروايتين، ففي "انتقام الأبله" يفتتح المشهد بوصف لـ"قرية" ما لم يجعل لها اسما، ولم يضع لها مكانا على الخريطة، اعتمد على تعزيز قارئه ببعض المفاتيح التي تجعلنا نستبصر قرية تحت خط الاستواء، تزرع المانجو والموز، عمادها وقوامها الاقتصادي والاجتماعي زراعة البن، وعلى هامش موسم حصاده تقام الطقوس، وتستمع لإيقاع الطبول، وتشتعل الرقصات كالمباريات الحامية، طقوس ليالي "الجريوت"، وفي قلب المشاهد المتناسلة يرسم لنا الكاتب ملامح بطله "الأبله" المدعو "سومو" ذلك الشخص "الأطول والأضخم بين الشباب" ذي الـ17 ربيعا، ولم يتجاوز عقله عتبات الطفولة المبكرة، ما جعله يحصد لقب "الأبله" بأريحية، كان دائما هو أضحوكة أهل القرية الساخرة، والهامش المهجور إلا من شفقة جدته، وتعلقه الفطري بجبل يعلوه معبد صغير لآلهة هذا المجتمع القبلي الأسطوري.
يتحول مسار"سومو" بعد أن يتورط قلبه في الحب، حب "تيماتي الجميلة" وبعد التورط في الحب يتورط في تهمة قتلها، وهو منها بريء، "سومو في جميع الرقصات، رقصه لا يتناغم مع إيقاع الطبول.. ولا غناؤه يتناغم مع أغاني المغنين.. يرقص كما يحلو له ويغني بصوته الأجش العميق كما يشاء.. سومو أبدى إعجابه بالجميلة تيماتي كثيرًا، وكثيرًا ما كانت تصدّە تيماتي، وكانت تعامله بترفع.. فكيف وهي أجمل فتيات جيلها، تقبل تودد هذا الأبله الذي هو مسخرة القرية كلها؟!"
تتحول ثيمة النوفيلا من البراءة للانتقام في مسارات تراكمية ألقت بسومو لهاوية النار، وبات لعنة مسلطة على القرية الظالمة التي اتهمته زورا وانتزعت منه أسبابه للحياة.
يُحدد سومو أسماء 5 ممن ظلموه ويتشح بالمعبد وآلهته لمساندته، وكان ثمن ذلك أن ينتهي به الأمر للموت هو الآخر، لأن التمادي في الانتقام يجعل المُنتقِم آخر المُنتَقم منهم..حسب عُرف القرية.
تجد أفيالا وثعابين ووحوشا وكل ما يعزز لديك مفردات المسرح الغرائبي الذي تدور عليه الأحداث، جميعها تساند رغبة سومو في الانتقام، فتغوص القرية في بحر ظلمات لا تخرج منه سوى في موسم حصاد جديد تُروى فيه حكاية الأبله المظلوم سومو، والقرية الظالمة، والانتقام ثم العفو.
احتشاد التفاصيل في "انتقام الأبله" التي لا تتجاوز 76 صفحة، تعطي إيحاء لقارئها أنها كان من الممكن أن تسير في مسارات رواية من القطع الكبير، من خلال تتبع تفاصيل وملامح شخوصها المحيطين بمأساة الأبله، وإن كان القالب الذي اختار أن يقدمه حجاج أدول "النوفيلا" جعل الانتقام ومشهد القرية الخضراء وهي تتسرب إلى الظُلمة، أقرب للطَلقة التي أصابت البراءة في كبدها.
الحكاية الثانية
في مقولة منسوبة للأديبة الراحلة غادة السمان تقول "لكنك لم تعرف قط كيف تخرج من القمقم، ما كنت تفتش عنه لم يكن في أعماق البحر بل كان في أعماقك".
تستدعي العبارة وأنت تتابع مشدوها سيرة "سمكة الصياد" بطل "النوفيلا" الثانية، الذي استطاع الكاتب أن ينقلنا إلى عالمها وكأنك في حضرة صندوق الدنيا، وقد أجلس على قمته بطله ليحكي كما أبطال السير الشعبية المشاهير، مُطعما لغته الفصحى بكلمات عامية تليق بميراث الحكايات التراثية المصرية : "أنا سمكة الصياد.. سأحكي لكم حكايتي.. سأحكيها خبط لزق بدون تزويق ولا ترويق..فاسمعوا وعوا".
جعل أدول من رحلة "سمكة الصياد" رحلة تتبع لنفس فقيرة تقدس الحظ، وتنتظر منه المعجزات، فدبّر الكاتب لـ "سمكة الصياد" لقاءا سورياليا مع "عفريت"، وضاعف من الفانتازيا بأن جعل العفريت مراهقا واسمه "شوشو".
خصص الكتاب السكندري، صاحب رواية "ثلاث برتقالات مملوكية"، لغة خاصة للحوار بين "سمكة" وعفريت، تفضح الجنون الذي عصف بمصير الصياد بعد الحضور الثقيل للعفريت في حياته، فمن صدمة تلقاها تمنعه من الوصال بحبيبته "حُسنة" لهجره لأبنائه، وشروده في صحراء، لاعتلائه عرشا ملكيا بمملكة البرقوق الذهبي، وخروجه منها من جديد هربا بعمره.
رحلة تحول فيها "سمكة الصياد" إلى الملك "بحر بن المفضال".. رحلة مرّ فيها وتدبر ثمن الأشياء.. ثمن المحبة.. وثمن الحرية.