هنري تيسيي.. أيقونة الأخوة الإنسانية في الجزائر
أسقف الكنيسة الجزائرية الراحل هنري تسيي ناضل طوال حياته للأخوة الإنسانية والتعايش بين الأديان، ومدافعاً عن سماحة الإسلام والمسيحية.
فرنسي الأصل والمولد، مسيحي الديانة، أسقف كنيسة عتيقة، لكنه في الوقت نفسه جزائري عربي مسلم الروح، إنه راعي الكنيسة الكاثوليكية بالجزائر الراحل هنري تيسيي.
جمع تناقضات السياسة وأيديولوجياتها، وكسر عقدة الآخر، وألغى تلك الصور النمطية التي تحولت في مناطق أخرى إلى فعل إجرامي أو سلوك متطرف، وفرض محلها "الأخوة الإنسانية".
- علي النعيمي: يوم الأخوة الإنسانية يحمل رسائل إنسانية سامية
- الكنيسة الكاثوليكية بمصر: يوم "الأخوة الإنسانية" عيد للبشرية
استحق طوال مشوار ربع قرن أسقفاً للكنيسة بالجزائر أن يكون رمزا للتسامح والتعايش الديني وحوار الأديان، ولقبه كثيرون بأنه تلك "الأيقونة الجامعة المتشبعة بالمسيحية السمحة".
اعتبرت الجزائر رحيله في 1 ديسمبر/كانون الأول 2020، بـ"الألم وبأنه فقيد التسامح والخسارة الكبيرة لرجل السلام، ولأفكار متشبعة بالأفكار الإنسانية النبيلة والمكافح طوال حياته من أجل تقارب الديانات السماوية".
سيرة رجل التسامح
يوصف بأنه "قس كاثوليكي فرانكو– جزائري" لما جمعه في حياة الرهبنة من عشق للجزائر البلد العربي المسلم، ولديانته المسيحية الكاثوليكية، ليترك قصة فريدة من نوعها وهو الذي كان عارفاً بسماحة الإسلام والمسيحية.
ولد الأب هنري تيسيي في 29 يوليو/تموز 1929 بمدينة ليون الفرنسية التي تعد أهم مدينة تاريخية للكنائس في أوروبا.
كان من أشد المدافعين عن استقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي ومن أكثر المناضلين والمناصرين لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وكلفه ذلك السجن سنوات الخمسينيات.
قضى أكثر من 50 عاماً في الرهبنة، ولأن الجزائر كان لها خصوصية كبيرة في وجدانه، فقد اختار الجزء الأكبر من مشواره الكنسي أن يكون في الأرض التي عشقها ودافع عن استقلالها.
عين من 1972 إلى 1981 أسقفا لكنيسة وهران الواقعة غربي الجزائر، ثم ما لبث أن تمت ترقيته إلى رئيس لأساقفة الجزائر عام 1988 لمدة 20 سنة إلى غاية 2008.
ويعتبر من المعجبين بأفكار الأمير عبدالقادر مؤسس الدولة الجزائرية، وكان قد حاز على جائزة الأمير عبد القادر للسلام سنة 2018، وكان وراء اكتشاف مذكرات الأمير التي كتبها في سجنه بفرنسا.
ألّف قبل رحيله كتاباً عن الأمير عبدالقادر الجزائري مستفيدا من فترة الحجر الصحي الذي فرضته فرنسا نتيجة تفشي جائحة كورونا، معتبرا تلك الشخصية الجزائرية بأنها "خدمت العلاقة بين الشرق والغرب"، ومستفيدا من وثائق أرشيفية نادرة من أن يكشف عن سماحة الدين الإسلامي والمسيحي.
وفي 1 ديسمبر/كانون الأول 2020 توفي الأسقف هنري تيسيي عن عمر ناهز 91 عاماً في مدينة ليون الفرنسية مسقط رأسه، لكنه أصر في وصيته على أن يدفن في أرض الجزائر، فكان له ذلك بمراسم تشييع لا تقيمها السلطات الجزائرية إلا للعظماء أو للشخصيات الرسمية.
جرت مراسم تأبين الأب هنري تيسيي في كاتدرائية السيدة الأفريقية بالعاصمة الجزائرية بحضور رسمي وشعبي ودولي كبير، يليق بشخصية استثنائية ناضلت من أجل الأخوة الإنسانية.
اختيار الأسقف هنري تيسيي للجزائر كان قرارا لا رجعة عنه، فلم يتركها سنوات التسعينيات عند تغول الجماعات الإرهابية في البلاد، وكان واحدا من أولئك الذين تحدوا الجهل بالدين والمتاجرين به، بل إنه كان من المدافعين عن سماحة الإسلام وعن براءته من فعل إجرامي وإرهابي أريد له أن يكون ملتصقاً بدين التسامح.
رفض مغادرة الجزائر رغم ما اقترفته الجماعات الإرهابية من إجرام بحق 19 راهباً في الكنيسة الكاثوليكية كان الأب هنري تيسيي شاهدا على اغتيالهم كما كان شاهدا على تطويبهم.
قديس الأخوة الإنسانية
عرف عن الأسقف هنري تيسيي طوال عمله في الجزائر صفة التواضع وحب جميع الناس، كان رمزا للتعايش، زاد ذلك بعد أن عرف الدين حقيقة سماحة الدين الإسلامي على أرض الجزائر التي كانت له الوطن الذي اختاره قلبه، وهو الذي كان متشبعاً بالديانة المسيحية السمحة.
تولدت له قناعة طوال عمله بالكنيسة أن هناك ما يجمع الإسلام والمسيحية، وقرر أن يكون من المناضلين من أجل التقارب بين الديانات السماوية والحوار بين الأديان، محترماً في الوقت ذاته خصوصية المجتمع الجزائري ذو الغالبية المسلمة.
وخلال مراسم تشييع جثمانه، أجمع الحاضرون من الشخصيات الجزائرية والدولية على وصفه بـ"قديس الأخوة الإنسانية" الناشر للتسامح بهدوء وبساطة وثقة وثقافة.
ساهم الأسقف الراحل في اختراق الأفكار المتطرفة عن الديانات السماوية، وكان له دور بارز في إطلاق الحوار الإسلامي المسيحي بداية الألفية الثالثة، حتى إنه دوره تعدى لدعم الباحثين الفرنسيين في استحداث تكوين جديد سمي "علم الإسلام"، يسمح لهم بالتعرف عن قرب عن سماحة الدين الإسلامي.