لا بد من وجود ما يسمو على "اللامنهجية" التي مثلت العامل الأساسي في تأجيج الخلافات الفقهية، والشروع في التنسيق بين دور الإفتاء في العالم.
قلّبت العديد من الصفحات، وأغلقت دفتي الكتاب الذي لا أعرف "تحديداً" ترتيبه في مكتبتي، ومما لفتني من بين ما قرأت من كتب التاريخ أني لم أجد بها -على اختلافها- ما يسمى "الخلافة" أو "الشريعة الإسلامية"، ملقاة "كمفردات" هنا وهناك، بل وجدت مصطلح "الخلافة" قد وصف بخلفائها بين أموية وعباسية وغيرها، أما كتب الفقه فقد جاءت بأسماء أصحاب المذاهب والفقهاء من مالكي وحنبلي.
وبين ما يحيط بنا من إشكالية في التعامل مع العديد من المفاهيم وفحواها، وفي هذه الأثناء التي أحضر بها لمشاركتي في مؤتمر "الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي"، والتي تعد من أبرز القضايا المهمة على الساحة العالمية، وجدت أننا لا نزال نعيش في بوتقة الضرورة الزمانية والمكانية، إذ لا بد من ترسيخ وبناء استراتيجية واضحة نحو إدارة الخلافات الفقهية بمنهجية حضارية في كل بقاع الأرض، التي إن لم تكن دولة مسلمة، تكون ذات مكون ضامٍ للمجتمعات المسلمة، ذلك أن التراث العربي الإسلامي على وجه الخصوص، ترك مخزوناً معرفياً لا يستهان به، سواء أكان دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً. وترتب على المجتمعات البشرية اللاحقة أن تتفق على حدود واضحة لإدارة المناهج المتخصصة في التراث.
وللمتمعن في نتاج المناهج المطروحة كمحاولات لفهم التراث، لزم تقديم المساهمات الحقيقية والجادة، في إطار التجديد، محاولةً منا في الدفع بعجلة المواكبة، كمحاولة جادة لضبط المنهجية الصحيحة في صياغة المفاهيم والمصطلحات، والإشارة بالبنان لآثار الخلل المنهجي، في بناء المفاهيم وما يتبعها على البنية المعرفية في العلوم الشرعية، إذ إن "عقدة" منهجية التعامل مع التراث تعتبر موضع تجاذبات قويا، ولذا فله ما له من شأن في الانقسامات الحادة الواقعة بين النخب الثقافية والدينية، وذلك ما لا نستهجنه على المتشبثين بهالة التقديس التراثي، التي تتعدى ذلك للحكم بالتكفير أو الصلاح لدعاة الحداثة، أو القطيعة مع الماضي.
لا بد من وجود ما يسمو على "اللامنهجية" التي مثلت العامل الأساسي في تأجيج الخلافات الفقهية، والشروع في التنسيق بين دور الإفتاء في العالم، والسعي الحقيقي في سبيل إيجاد المنهج المتزن، على اعتباره الطريق الأنجع في ضبط المنهجية الواضحة في التعامل مع التراث، لإنتاج منظومة إدارة فقهية حضارية مثلى.
كما يستلزم في سياق هذا الجذر المهم والاستراتيجي العامل في تحديد مستوى نهضة الدول، استعراض المدارسات التي أحاطت بالموروث الثقافي في الفكر العربي المعاصر، كالمنهج التاريخاني، المرتكز على عرض المعطيات الثقافية التراثية. والمنهج التاريخي الفيلولوجي، المعتمد على الفحص التاريخي اللغوي للنص، بالبحث في أسبار مصادر المفاهيم والأفكار التي تؤسسه.
أضف إلى ذلك المنهج المادي التاريخي الذي يقرأ الأفكار والنصوص، بما هي مجرد تعبير عن أيديولوجية طبقة اجتماعية، في صراعها مع باقي الطبقات الأخرى، أما المنهج الفينومينولوجي فقد اعتمد أطروحات هوسرل، الذي حاول الأستاذ الدكتور حسن حنفي تطبيقه في دراسة تاريخ الفكر الإسلامي. ليرتكز منهج التحليل الأبستمولوجي على تحليل المفاهيم الحاكمة للتفكير، وإنتاج المعرفة داخل ثقافة ما، وقد ارتبط استخدامه بالأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري، رحمه الله، في كتابه "نقد العقل العربي".
ونجد لجانب ذلك المنهج التحليلي – النقدي، معتمداً على تفكيك المنظومات الأبستمولوجية للمعرفة، البارز في تحليلات محمد أركون للعقل الإسلامي، وقراءته النص القرآني. والمنهج التأويلي على نحو ما فعل نصر حامد أبو زيد في قراءات متعددة للنص الديني، ويفترض أن للمعنى شروطاً تتغير بتغير نوع الخطاب وظروف التلقي. وأخيراً المنهج التاريخاني النقدي، الذي يشدد في قراءة الموروث على تاريخيته المعرفية وعدم الخلط بين أزمنة المعرفة، وتميّز باستخدامه باحثون مثل علي أومليل وناصيف نصار وعبدالمجيد الشرفي.
وعلى الرغم من تعدد القراءات والمقاربات المنهجية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي، فإن كل قراءة منهجية تبقى نسبية، تحمل في طياتها نقاطاً إيجابية من ناحية، وأخرى سلبية من ناحية أخرى، وتحوي أيضا في منظومتها الفكرية والنظرية والتطبيقية أبعادا أيديولوجية مختلفة، ومقاصد مرجعية متباينة. وبعد ذلك، تصل هذه القراءات أو المنهجيات إلى حقائق احتمالية ونتائج نسبية، تختلف من قارئ إلى آخر، ولذا فلا بد من التبصر والإمعان في انعكاسات هذه المناهج التحليلية، على المقاربات العلمية في فهم وإدارة الخلاف الفقهي، مع مراعاة نتاج ذلك، من الميل لإحدى المسالك في فهم التراث، بين مسلك تقديس التراث الفقهي وإنتاجاته ورموز مدارسه عبر الأزمنة والأمكنة، بالتمسك بـ"الثوابت"، دون التأويل أو المصاحبة، وآخر هو مسلك البحث عن البعد المقاصدي والمصلحي من غائية التشريع الإسلامي وأحكامه، التعبدية للخروج بفقهٍ مناسبٍ يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الزمانية والمكانية ويعتمد على إعمال العقل والمصالح المرسلة لتحقيق المناط. ومن ذلك فلا بد من وجود ما يسمو على "اللامنهجية" التي مثلت العامل الأساسي في تأجيج الخلافات الفقهية، والشروع في التنسيق بين دور الإفتاء في العالم، والسعي الحقيقي في سبيل إيجاد المنهج المتزن، على اعتباره الطريق الأنجع في ضبط المنهجية الواضحة في التعامل مع التراث، لإنتاج منظومة إدارة فقهية حضارية مثلى.
نقلاً عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة