حزب الله يعرف أن الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية لا تسمح له بخوض حرب في لبنان.
يدخل حزب الله عامه الرابع والثلاثين، هو الذي تأسّس في 1985. يشارف على إنهاء عقده الرابع، وقد بات لديه الكثير ليخاف عليه. لم يعد حزبا طائشا بعدما خبر حرب 2006 وكلفتها الكبيرة. على مشارف عقده الخامس يبدو منهكا بشحّ الأموال، التي كانت هي الأساس في صناعة زعامة لبنانية كبيرة له بعد حرب تموز 2006، بتوزيعها المغانم والدولارات على "أزلامه" في الطوائف والمذاهب الأخرى، حتى بات لديه "74 نائبا في البرلمان اللبناني"، كما أعلن قاسم سليماني بعد الانتخابات النيابية في 2018.
مُحاصرٌ نصر الله بالإفلاس المالي، وبالقصف الإسرائيلي الذي لا شكّ في أنّه أنهك قواه العسكرية والأمنية. مُحاصرٌ باستعدائه العرب، الذين لن يجدهم يغدقون عليه مليارات الدولارات لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية والجنوب اللبناني والبقاع حين يخرج من الحرب الآتية
محور حزب الله الإقليمي يسيطر على لبنان، وعلى أجزاء من سوريا والعراق، وخصومه المحليون شديدو الضعف، فما الذي ستقدّمه له الحرب غير المزيد من العزلة المحلية والإقليمية، والمزيد من الانفضاض الشعبي، وربما الشيعي، من حوله؟
للمرّة الأولى في تاريخه، خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى جمهوره خائفا ومتردّدا وضعيفا، يطلب من الأمريكيين أن "يضبّوا" الإسرائيليين عنه. فقد قال بالحرف: "إذا كان هناك أحد حريص بلبنان على ألا يحدث مشكل فليتحدث مع الأمريكي ليتحدث بدوره مع الإسرائيليين ينضبّوا" وأعادها: "ينضبّوا".
كان قد قال قبلها بدقيقة: "يا دولة، يا حكومة، يا ناس، تذكرون، أنا في كثير من الخطابات كنت أفتح هذا الموضوع وأقول اعملوا معروفا وأوجدوا حلا وعلاجا، إذا كان القرار الدولي الصادر حول حرب تموز يمنع الخروقات الإسرائيلية فلماذا لا تتوقف؟".
ولكن لماذا هذا التمهّل من رجل اعتاد جمهوره على أن يراه بصورة الزعيم الذي يخيف دولا بأسرها؟
يتعرّض حزب نصر الله وقوّاته لضربات إسرائيلية في سوريا منذ سنوات. وتسارعت وتيرة الضربات خلال الأيام الأخيرة؛ مساء السبت أعلن الجيش الإسرائيلي قصف قوات إيرانية قرب دمشق "كانت تخطط لإطلاق طائرة مسيّرة نحو أهداف في إسرائيل" ثم كشف الجيش الإسرائيلي في بيان عن هوية شابين ونشر صورتهما، قائلا إنّه قتلهما في الغارة، وإنّهما منتسبان إلى حزب الله.
فجر الأحد كانت طائرتان مسيّرتان تخترقان عمق الضاحية الجنوبية لبيروت لتنفجر واحدة منهما في مبنى يضمّ مكاتب إعلامية لحزب الله في منطقة معوّض. ومساء الأحد هدّد نصر الله بالردّ وطلب "ضبّ" الإسرائيليين عن حزبه. لكن فجر الإثنين كانت القوات الإسرائيلية تقصف أهدافا في العمق اللبناني تعود لـ"الجبهة الشعبية-القيادة العامة"، بزعامة أحمد جبريل، الفلسطيني السوري، الذي يدير قاعدة عسكرية في قوسايا بالبقاع قرب زحلة، وهو من بقايا النظام السوري في لبنان، ويحظى بمباركة إيرانية وحزب الله. كسرت إسرائيل بذلك قواعد الاشتباك التي ينصّ عليها القرار 1701.
وإذا كانت عملية "الطائرتين" غير واضحة كاعتداء مباشر، فإنّ اعتداء فجر الإثنين، على مسافة أقلّ من 24 ساعة من اعتداء فجر الأحد، كان واضحا ولا يحتاج إلى تحليل واستنتاج. كذلك بيان الجيش الإسرائيلي حول الشابين اللذين قتلهما قرب دمشق.
يعرف حزب الله أنّ الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية لا تسمح له بخوض حرب في لبنان؛ فدونالد ترامب على رأس الإدارة الأمريكية، والعقوبات الأمريكية على إيران خنقتها ماليا، وكذلك خنقت الحزب العقوبات على داعميه في لبنان وحول العالم. عقوبات تقترب بسرعة من حلفائه غير الشيعة.
وكان لافتا بعد ساعات من ضرب "الجبهة الشعبية"، وعلى بعد يوم واحد من اعتداء الطائرتين في الضاحية الجنوبية، أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري، الزعيم الثاني للشيعة في لبنان، خرج بتصريح لجريدة "الجمهورية" في لبنان متحدثا عن الأوضاع الاقتصادية وداعيا إلى "حوار اقتصادي"، دون أيّ كلمة عن الأحداث الأمنية والسياسية. وفي هذا رسالة مدوّية موجّهة إلى نصر الله بأنّ لبنان لا يتحمّل حربا جديدة، بل ربما المقصود أنّ الشيعة لا يتحمّلون حربا جديدة.
مُحاصرٌ نصر الله بالإفلاس المالي، وبالقصف الإسرائيلي الذي لا شكّ في أنّه أنهك قواه العسكرية والأمنية. مُحاصرٌ باستعدائه العرب، الذين لن يجدهم يغدقون عليه مليارات الدولارات لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية والجنوب اللبناني والبقاع حين يخرج من الحرب الآتية. مُحاصرٌ بانفضاض شعبي لبناني من حوله، خلافا لما كان عليه الأمر في 2006، حين فتح اللبنانيون بيوتهم للشيعة النازحين إلى الشمال وجبل لبنان وفي القرى والبلدات المسيحية والسنية والدرزية. مُحاصرٌ في سوريا التي لن تستطيع عائلات المقاتلين الهروب إليها كما فعلت في 2006. مُحاصرٌ داخل طائفته التي باتت خائفة من حرب تأخذ كلّ مكاسبها السياسية والإنمائية من سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم.
بعد كلّ هذا، من الطبيعي أن يخرج نصر الله ليطلب عون الأمريكيين ونجدتهم له من الإسرائيلي.
حتّى لو بادر حزب الله إلى ردّ محدود على إسرائيل، عبر عملية مشابهة لعملية "الطائرتين"، فسيظلّ الحزب الذي تعرّض للاعتداءات وسكت كثيرا، لا لأنّه يخاف على لبنان، بل لأنّه يخشى الحرب، ويخاف على شعبيته، ومن الإفلاس، كما ينتظر القرار من إيران، المتمهّلة في تصريحات رئيس جمهوريتها ووزير الخارجية.
للمرّة الأولى، على لسان نصر الله، بدا حزب الله خائفا وضعيفا. وهذه ليست سوى البداية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة