يبدو أنه لا يحق للبنانيين المطالبة بالعدالة في جرائم "حزب الله" الإرهابي.
فلا يمكن للقصاص أن يقع على حزب يأخذ الدولة بكل من فيها رهينة، ولا أحد من قادته أو ساسته يمكن أن يقف أمام القضاء، حتى أن حصانته تمتد إلى حلفائه عندما تقتضي الحاجة.
ما حدث في لبنان خلال الأيام الأخيرة يعيد تأكيد هذه الحقيقة، فمَن ثار "حزب الله" رفضا للتحقيق معهم في انفجار مرفأ بيروت لا ينتمون إليه، وإنما هم حلفاء لا يترددون أبداً في التغطية على جرائم أمين عام الحزب داخل لبنان وخارجها، لذلك كان لا بد لـ"السيد" من تحريض أتباعه والزج بهم فيما يشبه التهديد بحرب أهلية جديدة إنْ كان التحقيق سيمس بحزبه أو بحلفائه.
عاش اللبنانيون هذه التجربة مرات عدة سابقاً، فقد شاهدوا بأم أعينهم كيف يرفض "حزب الله" تسليم قتلة رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، ورأوا الحزب يحتل بيروت في السابع من أيار عام 2008 رفضا لقرارات مجلس الوزراء.
كذلك استيقظ اللبنانيون خلال أيام كثيرة في العقدين الماضيين على أخبار اغتيال معارضين للحزب، بدءا من سمير قصير وجبران تويني، وصولا إلى لقمان سليم.
لا أحد يتحمل وزر قتلى الأحداث الأخيرة في بيروت سوى "حزب الله"، فهو من سفك دماءهم عندما اختار رفض إنصاف ضحايا المرفأ وسيَّس التحقيق في انفجاره، فأحاله إلى أداة لإثارة الطائفية، وأيقظ المكنون في الصدور من غضب متراكم على مدار سنوات كان الجميع خلالها يتفرج على "حزب الله" وهو يتمادى في ترهيب الدولة اللبنانية وشعبها.
الترهيب هو اللغة الوحيدة، التي يبرع بها "حزب الله".. إنْ لم تكن معه فأنت عدوه، والتعايش بالنسبة له لا يعني فقط القبول بسلطته واستبداده، وإنما أيضا التسليم لمنطقه في التقييم والحكم والتفكير.. هو وحده من يمتلك حق تفسير ما يحدث في البلاد، وعليك أن تقبل بهذا التفسير وما يليه من تدابير وإجراءات، وإلا سيكون مصيرك الموت أو البؤس والشقاء سياسيا واقتصاديا، أو الخيار الثالث الحاضر دائما هو الحرب الأهلية.
لا يعرف قاموس "حزب الله" مفهوم المواطنة بما تنطوي عليه من حق الاختلاف، وحق محاكمة الحزب عندما يخون الشعب والدولة أو يخطئ بحقهم، ولكن قاموسه ينضح بكثير من مصطلحات التخويف من "عدو" يتربص بالحزب وبشيعة لبنان، ويعج بمفردات الحشد والتجييش الأعمى في وجه "مؤامرة" تُحاك ضد "حزب الله".
يحق للحزب ما لا يحق لغيره، وحتى الدولة لا تملك أن تؤنبه أو تحاسبه على انتهاك سيادتها.. في الأمس القريب قرر "حزب الله" إدخال الوقود الإيراني عنوة إلى لبنان ولم يجرؤ أحد على محاسبته، وقبلها حوّل منافذ البلاد البرية والجوية إلى بوابات لتهريب مخدراته وتمرير تجارته المشبوهة.
الأمثلة كثيرة في تجاوز مليشيا "حزب الله" مؤسسات لبنان، وقد بات القاصي والداني يعرف أن "حزب الله" -بوصفه وكيل إيران هناك- يهيمن على قرار لبنان كدولة من جهة، ويتحكم بمصير اللبنانيين وفق ما يشتهي مشغّله أو تقتضيه مجريات السجال بين طهران والغرب ودول المنطقة من جهة أخرى.
قصة الأحداث الأخيرة في بيروت تتلخص في أن مسلحين للحزب رافقوا "متظاهرين" تمت دعوتهم للاعتراض على المحقق في أحداث انفجار المرفأ، طارق بيطار، دخلوا أحياء في بيروت تطالب باستمرار التحقيق في انفجار المرفأ.
على ذمة سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، "لم تكن تلك الأحياء ضمن خط التظاهرة"، وما فعله سكان هذه الأحياء هو مجرد إحباط محاولة مسلحي الحزب تكرار سيناريو اشتباكات السابع من أيار في بيروت عام 2008.
يمكن لأي شخص في لبنان أن يتوقع توترا يصل إلى حدود تبادل إطلاق النار تحت السماء الملبدة فوق لبنان هذه الأيام، والسؤال هنا ليس عن أسباب مرافقة مسلحي الحزب لـ"المتظاهرين"، وليس عن أسباب اختيارهم مناطق معروفة بحساسيتها، وإنما حول مبررات رفض "حزب الله" استمرار التحقيق في انفجار المرفأ.
استدعاء الوزير السابق، النائب علي حسن خليل، للتحقيق كانت القشة، التي قصمت ظهر البعير، فثمة خشية لدى "حزب الله" من اتساع رقعة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، ومساءلة شخصيات تُحسب على مليشياته أو حلفائه.. هو يخاف أن ينتهي الأمر بتحميل "حزب الله" مسؤولية الانفجار المهول، ومسؤولية وصول وتخزين نترات الأمونيوم، التي أدت إليه، وأودت بحياة مائتين وتسعة عشر شخصا وإصابة سبعة آلاف آخرين في شهر أغسطس/آب 2020.
وكعادته، يستعين "حزب الله" بنظرية المؤامرة لتبرير رفضه العدالة، إذ يزعم أن أطرافا خارجية وداخلية تحاول توجيه التحقيق لاتهامه في انفجار المرفأ، وبدل أن يدحض هذه "المؤامرة" بتقديم القرائن والحجج القانونية، التي تثبت براءته، اختار أن يوقف التحقيق بقوة السلاح والتهديد بالحرب الأهلية.
ماذا يمكن للبنانيين أن يفعلوا عندما يضعهم "حزب الله" أمام هذا الاختبار؟.. الإجابة ببساطة هي إما القبول بجرائمه دون حساب أو عقاب، وإما أن يتوقعوا الموت عند المطالبة بالعدل والإنصاف في كارثة المرفأ أو غيرها من النوائب، التي ألمت بالشعب والدولة بسببه مليشيا الحزب.
إلى الآن، استطاع الجيش اللبناني احتواء التوتر الذي يسود البلاد ويتصاعد منذ سنوات، ليس بقدرته فحسب، وإنما برغبة الأطراف السياسية في الإبقاء على شعرة معاوية بينها، فالانزلاق إلى مسافة تتجاوز هذه الشعرة يعني تفجر حرب أهلية جديدة تأتي على ما تبقى من لبنان كدولة.
إنْ وقَع ذلك المحظور سيكون "حزب الله" خصما لجميع مكونات الشعب اللبناني، وقد أظهرت تداعيات الأحداث الأخيرة أن التوتر بين الطوائف لا يذكر مقارنة بالخصومة بين اللبنانيين ومليشيات الحزب وحلفائه، ورغم ذلك لا يمكن التنبؤ بنتائج صراع مسلح في لبنان، ليس على الداخل فقط، وإنما على المنطقة ككل، فإيران وأذرعها لا يتقنون شيئا أكثر من نشر الخراب والدمار، ولا يكترثون بكم الجثث.. يحتاجون فقط إلى العبور فوقها وصولا إلى سواحل "المتوسط".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة