لم يُرد فريق تابع لإيران أن تمر زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، فيكتوريا نولاند، إلى بيروت بهدوء.
وذلك بعد أن أرادت المسؤولة الأمريكية رفيعة المستوى عقد سلسلة لقاءات مع ممثّلي المجتمع المدني في لبنان والمسؤولين اللبنانيين، لمناقشة الإصلاحات الاقتصادية والانتخابات النيابية المقبلة، فقاموا قبل الزيارة بمهاجمة القضاء وترهيبه، واختاروا أن تكون ساعة اقتحامهم وزارة العدل وبيوت المسالمين في منطقة "الطيونة" لحظة وجود السيدة "نولاند" مع المسؤولين اللبنانيين.
بداية، فإن السيّدة نولاند هي الرقم 2 في وزارة الخارجية الأمريكية، وقد حلّت مكان مساعد وزير الخارجية السابق، ديفيد هيل، وهي مسؤولة عن الشؤون السياسية في الوزارة، التي كان هدفها استطلاعيّ بشكل أساسي، وستتمّ معها متابعة ملفّات عدة، منها المساعدات الإنسانية ودعم لبنان في كلّ المجالات الممكنة.. وهنا يرد السؤال: هل فعلا الأمريكيون في وارد التنافس مع الإيرانيين؟
والإجابة أن الولايات المتحدة هي أكبر مانح منفرد للمساعدات الإنسانية في لبنان، وأنّ الحضور الأمريكي قويّ بها على الدوام، وأن أمريكا لن تترك لبنان ينهار أمنيّاً أو معيشياً، فالأمريكيون مهتمّون حالياً بمساعدة كلّ القطاعات المتضرّرة، لا سيّما القطاعين الصحّي والتربوي، وكذا بمعالجة أزمتي الكهرباء والغاز، وهناك ضغوط قويّة من جهات لبنانية ومن اللوبي اللبناني في أمريكا لتقديم مساعدات عاجلة إلى لبنان.
هذا الأمر سمعته كثيرا في واشنطن، حيث تتواصل السفيرة الأمريكية في بيروت، دوروثي شيا، ومسؤولو الجامعة الأمريكية بالعاصمة اللبنانية، فضلا عن شخصيّات لبنانية-أمريكية في واشنطن، مع مسؤولين أمريكيين وأعضاء في الكونغرس لتعزيز الاهتمام بلبنان، خصوصاً في مجالات الصحّة والطاقة والقضايا التربوية والاجتماعية.
لا ننسى هنا أنه قبل أسابيع قليلة أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن تقديم نحو 100 مليون دولار من المساعدات الإنسانية الجديدة للبنان، في مسعى إلى تخفيف الأزمة الخانقة، التي تعانيها البلاد، وستقدم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووزارة الخارجية الأمريكية مساعدات للمتضررين من كوفيد-19 وآثاره الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة على الشعب اللبناني، كما يدعم التمويل أيضا اللاجئين السوريين في لبنان.
كذلك تقوم الولايات المتحدة، من خلال التمويل البالغ 41 مليون دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بتوفير المساعدات الغذائية المطلوبة بشكل عاجل والرعاية الصحية والحماية والدعم لناحية المياه والصرف الصحي للمجتمعات، ويشمل هذا التمويل أيضا المساعدات الغذائية لنحو 400 ألف مستفيد لبناني، ويضاف إلى تمويل وزارة الخارجية الأمريكية، لتصل إجمالي المساعدات الأمريكية للبنان إلى أكثر من 372 مليون دولار في السنة المالية 2021.
بالعودة إلى الأحداث الأخيرة، فقد صرّح مسؤول حكومي أمريكي في العاصمة واشنطن، أن "على الحكومة اللبنانية، وتحديدا الجيش اللبناني، التعامل بحزم مع المظاهر المسلحة، التي تمارسها جماعة حزب الله، المدرجة على لائحة الإرهاب، في شوارع بيروت"، وهذا لا يتعارض مع أحد أبرز أهداف الولايات المتحدة في دعمها القوى الأمنية في لبنان وهو تحقيق الاستقرار والمحافظة على المؤسسات الحكومية وتوفير الأمن للمواطنين، حيث إن المساعدات العسكرية الأمريكية إلى الجيش اللبناني هي معيار حيوي في السياسة الأمريكية تجاه لبنان بهدف الحفاظ على سيادته وحماية حدوده ومكافحة الإرهاب.
اليوم يجب ألا يغيب عن بال الحكومة اللبنانية أن الجيش اللبناني هو محور أساس في تحقيق الاستقرار الداخلي، وأن الشراكة الأمريكية معه أفضت إلى توفير مساعدات وتجهيزات عسكرية له بقيمة 2.5 مليار دولار منذ عام 2006، من بينها نحو 300 مليون دولار في موازنتي العامين الماضي والحالي، وأن الولايات المتحدة تعمل مع السلطات اللبنانية والبنك الدولي ومنظمات إغاثية لمساعدة لبنان في احتواء الأزمة الاقتصادية العميقة، وبالتالي أزمة الطاقة، التي اندلعت على خلفيتها.
يمكن القول إن ما سيركز المسؤولون اللبنانيون عليه مع "نولاند" هو حقيقة الموقف الأمريكي من العلاقات مع دمشق، وإمكانيّة منح استثناءات وإعفاءات من قانون "قيصر"، خصوصاً بعد الاتفاق على استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سوريا، وبالتالي ستحاول حكومة "ميقاتي" بناء تصورها للأسابيع المقبلة، وهي التي تصطدم بعقبات كثيرة بسبب الخلافات بين مكوناتها -وقضية القاضي بيطار قد تصدع كيانها- والتي يراهن كل طرف منها على اتجاه دولي وإقليمي يتعارض مع رهان الآخر.
نحن أمام الإطلالة الأمريكية الأولى على لبنان بعد تشكيل الحكومة الجديدة، من خلال زيارة وفد دبلوماسي بارز برئاسة "نولاند"، فيما الحركة الدولية في اتجاه لبنان لا تهدأ، فلا تزال التحديات تكبر أمام حكومة نجيب ميقاتي، مع عودة سعر صرف الدولار إلى مستوياته المرتفعة السابقة، ودخول البلاد في العتمة، وارتفاع أسعار المحروقات عشية فصل الشتاء وحاجة الناس إلى التدفئة، مع الصعود الجنوني لكل أسعار السلع، ما يعني أن اللبنانيين في أمسّ الحاجة إلى خطوات عملية ونتائج فورية، على الرغم من أن المجتمع الدولي يعمل وفق توقيته والأجندة التي يضعها ولا يتأثر بحسابات واعتبارات.
في الخلاصة.. أعتقد أن الإدارة الأمريكية الحالية ترى أنه لا يمكن الاعتماد على القوى السياسية اللبنانية، خاصة مع استمرار تنامي دور "حزب الله" وحلفائه، وبالتالي فالبديل الأمثل هو الجيش اللبناني غير الطائفي وغير المرتبط بالمصالح السياسية، كما أنه الضمانة إلى الآن لتوفير الأمن الداخلي، مع أن المعطيات كافَّةً تشير إلى أن إيران لا يمكن أن تغير من سياستها تجاه لبنان والدول العربيَّة، ومساعيها لتغيير الأوضاع الجيوسياسيَّة والاستراتيجية في عموم المنطقة العربيَّة لصالح القوة الإيرانية، سواء من الناحية الأيديولوجية أو من ناحية النفوذ الأمني والتعبوي لجميع الدول التي تستهدفها، وأما ما تعرضه إيران من دعم للبنان في مجال الطاقة فليس سوى "فرقعة إعلامية"، ليبقى السؤال مطروحاً: هل ستتمكن السلطات اللبنانية من دعم التحقيق في انفجار مرفأ بيروت بطريقة حيادية ومستقلة، رغم بوادر الفتنة وعودة مشاهد الحرب الأهلية، التي افتعلها حزب السلاح، المتهم الأول في هذا التفجير؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة