أعطى تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي بصيص أمل وتفاؤل بشأن بدء حل الأزمة اللبنانية الخانقة.
لقد بدت هذه الأزمة عصية على الحل بسبب تعدد جوانبها وتداخل قضاياها، ما أدى إلى انهيار متسارع في كل مظاهر الحياة.
لذلك، فإن التحديات المُلحَّة، التي تواجه الحكومة، كثيرة ومتعددة لارتباطها بمستوى معيشة وصحة وسلامة الغالبية العظمى من اللبنانيين.
وأركز في هذا المقال على تحدٍّ قد يبدو أقل إلحاحاً، لكنه لا يقل خطورة وأهمية، وهو تسييس القضاء وعدم تحقيق العدالة وإفلات الجناة من العقاب.
فالمهمة الرئيسية لمؤسسة القضاء في أي دولة هي تطبيق القانون على الجميع دون تمييز وفقاً لقواعد عادلة وشفافة.
وليس أدل على ذلك من التماثيل، التي تُصوِّر العدالة في شكل امرأة معصوبة العينين.
ويتفق العلماء والمؤرخون على أن "العدل أساس المُلك"، فالدول تنهض بالعدل، ويأتي في هذا المقام قول الفيلسوف ابن خلدون "المُلك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء".
وأذكر هنا الرواية الذائعة عن الزعيم الفرنسي الجنرال شارل ديجول عندما دخل إلى العاصمة الفرنسية عام 1944 في أعقاب تحريرها من الاحتلال النازي، وسأل أهلها عن أحوال المدينة، فأجابوه بأنها "منهارة وليست بخير"، فسأل: وماذا عن أحوال القضاء؟، فأجابوه: بخير، فقال: إذاً فرنسا بخير.
لذلك، فإن من الحقائق المزعجة بشأن لبنان، فشل القضاء اللبناني في استكمال التحقيقات بخصوص الانفجار المُروِّع الذي أصاب مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، وما زال الغموض يكتنف مستقبل هذا التحقيق.
فبعد حدوث الانفجار، جمع مجموعة من المحققين الفرنسيين واللبنانيين معلومات مباشرة عما حدث، ثم تولَّى القاضي "فادي صوان" مهمة التحقيق ووجَّه اتهامات إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال، الدكتور حسان دياب، وعدد من الوزراء السابقين بـ"الإهمال"، فتعرَّض لضغوط كبيرة انتهت باستبعاده من التحقيق في الحادث.
وخلَفَه القاضي "طارق بيطار"، الذي تبنَّى مسلكاً أكثر حذراً، فلم يوجِّه الاتهام لأحد في البداية، واكتفى بطلب الاستماع إلى شهادات نفس المسؤولين.
ففي يوليو 2021، أرسل خطاباً إلى وزير الداخلية اللبناني يطلب منه السماح لمدير الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، بالمثول أمامه وتقديم شهادته.
وأرسل خطاباً آخر إلى رئيس مجلس النواب، نبيه بري، يطلب فيه رفع الحصانة عن ثلاثة من أعضاء المجلس، الذين تولوا مناصب وزراء المالية والأشغال والداخلية.
وكانت النتيجة سلبية بامتياز، إذ رفض كل من وزير الداخلية ومكتب مجلس النواب طلب القاضي، كما رفض رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال الذهاب للإدلاء بشهادته، فأصدر القاضى مُذكِّرة إحضار بشأنه، لكن لم يتم تنفيذها، فأصدر القاضي أمراً لجهات الأمن بإحضاره في الجلسة القادمة المُقرَّر عقدها في 20 سبتمبر 2021، لكن هذا الأمر لن يتم تنفيذه، فقد سافر حسان دياب إلى أمريكا يوم الثلاثاء 14 سبتمبر الجاري دون أن يوقفه أحد.
وتباينت ردود فعل الأطراف اللبنانية بشأن هذه التطورات.. فقد أدان التيار الرئيسي في الرأي العام تهرُّب المسؤولين من الإدلاء بشهاداتهم وأن ذلك في حد ذاته يُمثِّل خرقاً للقانون وإدانة ضمنية لهم.
وعندما اقترح سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، أن يُصدر مجلس النواب قراراً برفع الحصانة عن جميع أعضائه تسهيلاً لإجراءات التحقيق، شهد لبنان "مزايدات سياسية" منقطعة النظير.
وأعلن الرئيس "عون" أنه يتخلى عن أي حصانة، وأنه على استعداد للمثول في أي وقت أمام قاضي التحقيق، ودعا نواب العهد من تيار المستقبل و"حزب الله" إلى تغيير الدستور حتى يتسنى رفع الحصانة، وهُم يدركون بالطبع أن تغيير الدستور يتطلب سنوات طويلة، وأن ما يطلبه القضاء هو رفع الحصانة عن ثلاثة من نواب البرلمان فقط.
أما الأمين العام لـ"حزب الله" الإرهابي فقد انتقد القاضي "بيطار" واتهمه بـ"تسييس القضية".
تكرر هذا المشهد عندما رفض حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وآخرون، الامتثال لطلب القاضية غادة عون بتهمة تحويل مئات الملايين من الدولارات بشكل غير قانوني إلى الخارج والإثراء غير المشروع وغسل الأموال، فأصدرت أمراً بتوقيفه، وهو الأمر الذي لم يُنفَّذ.
وتعددت التفسيرات في ذلك، فبينما رأى المعارضون للعهد أن هذه القاضية محسوبة سياسياً على الرئيس "عون"، وأن إصدارها هذا الأمر كان جزءاً من تسوية خلافات الرئيس مع الرجل، وأنها قامت بهذا الإجراء رغم أنها لم تعد مُكلَّفة بالتحقيق في هذه القضية بعد صدور قرار من النائب العام بإبعادها عنها، ولكن أنصار الرئيس "عون" تحمسوا لموقف القاضية واعتبروه "تنفيذاً للقانون".
يمكننا فهم هذا الواقع المؤلم في ضوء التركيبة الطائفية للمجلس الأعلى للقضاء في لبنان، والذي يضمن لكل طائفة ممثلاً لها فيه، ويتم اختيار القضاة وفقاً لمساومات وحصص طائفية بين المذاهب والطوائف المتعددة.
وتزداد خطورة هذا الوضع عندما يتمسك القادة الطائفيون بتعيين من اختاروهم في مناطق نفوذهم.
وللأسف، فقد أثَّر هذا الوضع على سلوك عدد من القضاة، ما دعا الأكاديمية والمحامية "ماري كلود نجم"، التي شغلت منصب وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، إلى القول في إبريل الماضي: "القضاء يُظهر نفسه عاجزاً عن مكافحة الفساد، ويقاتل في معارك إعلامية، وهذا ما يُفقده ثقة الناس به".
فهل تستطيع الحكومة اللبنانية الجديدة التعامل مع هذا الملف المُعقَّد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة